الموت خلف الباب
جمال بنورة
كيف يستطيع أن يُسكت صراخ أطفاله؟
يكاد قلبه يتقطع، وهو ينظر إلى أصغر أبنائه.. الذي شرع في البكاء بعد أن زغردت أول طلقة في الفضاء.
-بابا.. ليش بدهم يطخونا اليهود؟
وعليه أن يتحلّى بالشجاعة -التي لم يعد يملكها- حتى لا يكشف خوفه أمام أبنائه، وحتى لا يضاعف من خوفهم!
لم يتوقع أن يفعلوها الليلة..!
في العادة يخبرونهم مسبقاً، لكي يحتاطوا لذلك.. أو يخرجوا من منازلهم.. مع أنه في الغالب كان يرفض ذلك. وقد خرج في بعض الأحيان عندما كان يشتدّ إلحاح أبنائه وزوجته.
وكانت قد أخبرته أن بعض الجيران غادروا منازلهم نهائياً، واستأجروا بيوتاً آمنة من التعرض لنيران المدفعية. فلماذا لا يفعلون مثلهم؟
-قلت لك.. علينا أن نغادر البيت، ولكنك لا تسمع! لأنك تريد أن تمشي كلمتك أنت في البيت. قالت زوجته بغضب فردّ عليها:
-هل ترين أن هذا الوقت مناسب للمعاتبة؟
***
-ماما.. أنا بخاف..!
صرخت ابنة الخامسة وهي تختبيء في حضن أمها0
-ما تخافيش.. أنا جنبك..
-بديش أموت!!
بينما ظلّ أكبر أبنائه الذي يناهز السابعة يقف جامداً كأنما الخوف سمّره في مكانه.. أو كأنما يحاول أن يبدو رجلاً فهو يفكر مع والده في وسيلة للخلاص0
***
نصحه جاره الذي دُمّر بيته في بداية الانتفاضة أن ينفد بجلده قبل أن يتهاوى منـزله على من فيه0 ولكنه تمسك بالبقاء في بيته قائلاً:
-اليوم نخرج من بيوتنا0 غداً نخرج من بلدنا0 ثم نبدأ بالصياح لكي نعود.. وهيهات أن يتمّ لنا ذلك.. إذا كان لا بدّ من الموت فليكن داخل بيوتنا0 لا أريد أن تتكرر مأساة الماضي0
-هل البيت أغلى من حياة أطفالك؟
-الصحيح أن الذي يحرق قلبي صياح الأطفال.. ولكن ماذا أستطيع؟!
***
انتقل بأبنائه إلى بيت الدرج المحاذي للشارع الرئيسي.. مُبعداً إياهم عن الجهة المعرضة للقصف في الجزء الخلفي من البيت0
لم يتوقف صياح الأولاد0
قالت ابنة الخامسة:-يا اللا نشرد.. بابا0
-عندما يخف الضرب.. سنخرج من هنا إلى مكان آمن0
***
اهتز المنـزل فوق رؤوسهم عندما ضربته قذيفة مدفع من الجهة الخلفية، في اللحظة التي انتقلوا فيها إلى بيت الدرج0 ومع دوي انفجار القذيفة، سُمع صوت فرقعة وتحطم زجاج وانهيار حجارة الواجهة الخلفية للمنـزل0
ارتفع صراخ الأولاد، ودبّ الفزع في قلوبهم0 ولكن الله سلّم، فقد نجوا من الضربة الأولى، فهل سينجون من الضربات التالية، (تساءل الوالد في دخيلة نفسه).. كان يخشى الآن أن يتهدم المنـزل فوق رؤوسهم0 وأحس بالندم لأنه لم ينتقل إلى مكان آخر0
كان عليه أن يتوقع ذلك، فهم يطلقون الرصاص من بين البيوت، ويأتي الرد غالباً أقسى وأعنف، بما لا يقاس مما يمكن تصوره0 وعندما قال لهم ذلك0 ردّ عليه أحدهم:
-لا ننتظر من أحد أن يقول لنا أين نفعل ذلك!
-ابتعدوا عن المنازل.. حتى لا يجدوا مبرراً لضربنا!
-نحن أدرى بما يجب أن نفعله!
-البيوت حماية لنا!
-وهي حماية لنا أيضاً!
-ولكن في هذه الحالة لم تعد تحمي أصحابها.. فأين نذهب؟
-اخرجوا منها عندما يكون هناك إطلاق نار!
قال بلهجة يغلب عليها التوسل:
-نحن نحترم نضالكم.. ولكننا لا نريد أن تكونوا سبباً في دمار بيوتنا.. وربما موتنا..
-وهل نحن أتينا بالإسرائيليين إلى هنا؟
-إنهم يريدون ذريعة لقتلنا وتدمير منازلنا!
-أنت خائف أن تموت؟
-وهل هناك من لا يخاف الموت؟
-أحب أن أطمئنك.. لا أحد يموت ناقصاً عمراً.. كلنا معرضون للموت، ولا أحد يعرف من عليه الدور لأن يموت.. قد أكون أنا أو أنت.. أو الله أعلم..!
أسكته بهذه الحجة، ولم يعد يدري ما يقول!
***
مضى يهدئ أبنائه، وزوجته تقول:
-إذا نجونا الليلة، فلن أعود إلى هذا البيت الملعون، حجارة البيت ليست أغلى من حياة أولادنا0
"هل نحن أسرى بيوتنا.. أم أسرى خوفنا كما قال لي أحدهم؟ هل يجب أن نموت حتى يقال أننا شجعان، وأننا لا نخاف الموت؟! ولكن الخوف لم يمنعنا من النضال.. والتضحية.. تحملت السجن ثلاث سنوات في الانتفاضة الأولى.. ولكنني الآن لا أعمل شيئاً.. دوري مُغيّب، أحسّ أن يدي مكبلتان عن فعل أي شيء.. ربما لا أعرف ماذا علي أن أفعل، أو ربما لا يُراد لي أن أعمل شيئاً!!
-لماذا لا تعمل مثلي؟
-أنت تعرف أنني لا أستطيع!!
قال:-لن نتحرر حتى نتخلص من الخوف الذي يقبع في داخلنا.
-هل توجه الكلام لي؟
-أنت وغيرك!
-لا يحق لك أن تتهمني بالخوف.. أنا دفعت سنين من عمري.. حتى لا تقول لي الآن أنني خائف. لم يمنعني الخوف أبداً من أن أقوم بواجبي..
قاطعني قائلاً:-لماذا لا تستمر في نفس الطريق؟
-نحن نواجه الآن أكثر من انتفاضة.. إنها حرب.. وليس هناك ما ندافع به عن أنفسنا!
-إنها معركة في جميع الأحوال، وهي تتخذ أشكالاً مختلفة.
-ولكننا لم نستعد لما نواجهه الآن؟ وكيف آمن على بيتي وأبنائي؟
-ليس هناك أمان لأي شيء.. عليك أن تدفع ثمن حريتك!
-نحن ندفع الثمن.. ولكن ما هو المقابل؟
-لا تخف!.. ستُعوض عن كل خسارة!
-أنا لم أفكر فيما أخسره.. وإنما أفكر فيما سأجنيه! لسنا بحاجة إلى دولارات.. نحن بحاجة إلى وطن!
-عليك أن تقوم بواجبك أولاً، ثم بعد ذلك تسأل!..
-نحن لم نتهرب يوماً من تأدية واجبنا.. عملنا انتفاضة لمدة ست سنوات من أجل أن تكون لنا دولة، انتهينا إلى اتفاق يرسم طريق السلام.. وهذا الاتفاق أوصلنا إلى انتفاضة جديدة.. فما الذي ستأتي به هذه الانتفاضة؟!
-هل تريد أن نقبل بما تمليه علينا إسرائيل؟
-وهل قلت أنا ذلك؟ نحن لم نقبل حتى بأوسلو، ولكننا أرغمنا على ذلك.. قلنا قد يجلب لنا الدولة والسلام.. فانظر ما الذي حدث؟.. أنا أخشى أننا نقبل الخيارات التي تُفرض علينا في النهاية!
-في هذه المرة خيارنا هو المقاومة، ولا خيار غيره..
-المهم.. إلى أين سيؤدي ذلك؟
-ماذا تعني؟
-أعني أن لا تذهب تضحياتنا سُدى.. وأن نحقق الأهداف التي انطلقت من أجلها الانتفاضة.
-هذا ما نعمل لأجله الآن..
***
فاق قصف المدفعية في تلك الليلة أي ليلة سابقة. كان دوي القذائف لدى اصطدامها في البيوت تصمّ آذانهم وتزلزل الأرض تحت أقدامهم.
ازداد صراخ الأولاد. أصابتهم حالة هستيرية من الهلع، وبدت زوجته كأنها على وشك الانهيار.
روّعه منظر زوجته وأبنائه. كاد يخرج عن طوره. لم يعد قادراً على تهدئتهم. بدأ خوف حقيقي يتسرب إلى نفسه، ويخشى أن يكون عرّض عائلته للتهلكة. صمّم على الخروج، وتحمّل مخاطر ذلك على البقاء في البيت في حالة من الفزع لم تعد أعصابهم تحتملها.
ولعل الأولاد-على جهلهم-أحسوا أن خروجهم من البيت قد يُنجّيهم من القصف.
في تلك اللحظة سُمع صراخ وصيحات استغاثة من أحد البيوت المجاورة، فوجد في ذلك سبباً مقنعاً لخروجه. اقترب من باب المدخل يريد الخروج. حاولت زوجته أن تمنعه. صرخت به:
-انتظر حتى يهدأ القصف!
-لا أستطيع البقاء مختبئاً في بيتي!
ما كاد يضع رجله خارج عتبة الباب، حتى رأى ظلالاً حمراء تنعكس على الجدار المقابل، فقد كانت النيران تلتهم البيت المجاور لمنـزله. خرج راكضاً نحو البيت المشتعل، وزوجته تصرخ عليه دون أن يفهم ما تقول.
ما كاد يبتعد قليلا حتى دوى انفجار على مقربة منه.
أحس أن شيئاً رفعه إلى أعلى ثم طرحه أرضاً.
خرجت زوجته كالمجنونة. لحقها أبناؤها يتصايحون.
أمسكت برأس زوجها تحاول أن ترفعه عن الأرض.
كان هناك جرح عميق في رقبته ينزف دماً.
فتح عينيه-للحظات-ثم أغلقهما.
حاولت أن تتحدث معه على غير طائل.
قبل أن يأتي الإسعاف، كان قد فارق الحياة بين يدي زوجته وأبنائه.