حليمة المجنونة
حليمة المجنونة(1)
سناء كامل شعلان
يقولون: "الغرباء يرون بأعين نافذة"، ولكنّني لست غريباً، ولكنّني قضيتُ زمناً طويلاً في بلاد الصقيع والبرد أشرئبّ للدفء وللعلم، وأحلم بالعودة إلى قرية تنام بين أحضان الزيتون والبلوط، وتحلم دائماً بالأفراح وبمواسم جني الثمار وبالزواج وبمآدب الطعام وبالأهازيج وبالدّبكات، وتحتال على الزمن لتسرق السعادة منه في لحظات اللقاء، وتنثر الملح في عيوُن الحاسدين والغرباء، وتستقبل الآتي بالزغاريد. لكنّها قرية تنسى كلّ الحكايا، تنسى حكايا البائسين والهاربين والمظلومين، وتنسى كذلك حكاية حليمة المجنونة، وتبتلع كلّ ماضيها، فتحليها إلى أسطورة عرجاء، تتصيّدُ الأفراح والولائم، تأكلُ منها بنهم، وعلى عجل، وترقصُ فيها كيفما اتفق، فتثيُر ضحكَ النساء، وصخبَ الأطفال، تصفّقُ بعتهٍ بفردتي الحذاء اللتين تربطهما إلى بعض منذ سنوات حول رقبتها بخيط قنبٍ شبه بالٍ.
كم لهوتُ في الماضي مع أطفال القرية بأحزان تلك المرأة الكسيرة!! كم طربنا إلى بكائها وجنونهاّ!! وهي تطاردنا من حي إلى آخر، ومن ربوة إلى أخرى؛ لنردّ إليها الحذاء الصغير الذي تلفّ خيطه حول رقبتها، فنردّه إليها بعد أن ننهكها بكاءً وركضاً، وتنهكنا ضحكاً وتسلية، ما بالينا يوماً بأحزان حليمة، ولا سألنا يوماً من تكون حليمة المجنونة، فقد كنّا نظنّ – لجهلنا – أنّ المجانين دون حكايات أو ماضي أو أحزان، فقط هم بدموع وبطقوس عتهٍ.
لكنّني اليوم أعرف من هي حليمة، وأعرف أنّ حليمة لم تكن مجنونة، بل كانت أم سعد لعشرين عام من الزواج، قبل أن يجود القدر بسعد، فيأتي وليد العجز والشيخوخة وسنوات الانتظار...
عينا حليمة الغائرتان في صفحة وجهها الذي لوّحته الشمس، وجلده حزن دفين، كانتا أوّل صيحة هزأتْ بأفراحي في القرية، كما هزأتْ بأفراح أهلي وبزغاريدهم التي كلّلتها طلقات ناريّة لعينة، تستقبل السعادة بالموت، جاءتْ حليمة كعادتها في حمّى من الجنون والصراخ والزغاريد، وسرعان ما انقضّتْ على ابن خالي الذي تمترس وراء سلاحه الصدأ، يعبّر به عن فرحه بطريقة تذكرني برجال الغابات الأوائل، وبطقوس الدم والتضحية البدائية، طفقتْ حليمة تعضّه بجنون، وتصفعه بفردتي حذائها الصغير ذي السّر الدفين، وكاد الأولاد يشرعون بطقوسهم اليومية في إزعاج حليمة، لكن يديّ امتدتا دون إرادة مني إلى جسد حليمة الصغير، وجذبتاه بحنان، لأوّل مرّة تحزنني دموع حليمة، وتستفزني أحزانها، أنهرُ الصغار بشدة، فيبتعدون عنها، أعدّل من هندامها الأزرق الداكن الذي احتلّتْ الأوساخ والمِزق جلّ نسيجه، أمسّد على رأسها، وأجلسها بالقرب من زهور الريحان، التي تعتني بها جدتي منذ زمن طويل، وأطلب لها الماء والطعام، وأشرع أراقبها تأكل بهناءة عجيبة، وبانكسار محزن...
حليمة المجنونة كما وفقاً لما جدتي كانت جميلة القرية، وسيدة النساء بالعقل والخلق والاتزان، انتظرتْ سعد عشرين عاماً بلا كلل أو تعب، طوّفتْ على القبور والأضرحة والمشعوذين والأطباء، تضرّعتْ إلى الله طويلاً كي يأتي سعد الذي تتكنّى باسمه منذ دهر، فتتجرّع الحرمان والألم كلما صكّ اسمه أذنيها المشنفتين بشوق لكلمة ماما.
وجاء سعد بين غفلة التمنّي وشهوة الانتظار ومفاجأة القدر، وأبدل الحزن سعادة، وغدتْ أم سعد تطرب لكنيتها، وتختال بفخر بسعد ذي العينين العسجدتين المكحّلتين بالإثمد، والمطوّق بالرّقى والحجابات وقطع الذهب المحلاّة باللون الأزرق؛ لتردّ عنه العين والحسد. واشترى أبو سعد الذي يستعجل اللحظات، ويحثّ الساعات لتمضي سريعاً، فيرى سعداً رجلاً يرافقه في الزيارات، ويشاركه حضور الأفراح والأتراح، حذاءً صغيراً لسعد كي يكون حذاءه الأوّل، كان حذاءً طفولياًً صغيراً، عليه قلوبٌ حمراء، وضفادع صغيرة.
وإن كانت أم سعد قد زهدتْ بهذا الحذاء، فما كانت تريد أن يفارقها سعد، وقلّما خرجتْ من البيت ضنّاً به على المرض أو الإرهاق، ولزمتْ البيت معه سعيدة راضية، لكن معتكفها ما كان ليعصم ابنها سعد من الموت، فقد تسلّلت رصاصة غادرة في حُمّى عرس، أطلقها أرعن بلا حذر ليكرّس بصورة وحشية طقوس موروثة للأفراح، فتحوّل العرس إلى مأتم، واغتال فرحة أم سعد، فرصاصته الغادرة أبت إلاّ أن تُحرق قلب أمّ أضناها الانتظار، إذ انسلّت بدوي مخيف، واخترقت مهد سعد الذي يركن إلى نافذة قريبة من ساحة العرس، ويسدر في نوم لذيذ، مزّق ألم مفاجئ صدره، فندتْ عنه صرخة صغيرة وجلى، سرعان ما كتمها الموت، وأخرس احتجاجها.
ومات سعد، اغتالته فرحةٌ مجنونة برصاصة آثمة، وركن إلى قبر صغير ابتلع جسده، كما ابتلع سعادة والديه، وعقل أمّه التي ما اتسع لها العقل، ففرّتْ بحزنها إلى الجنون، وغدتْ حليمة المجنونة، التي تربط حذاء سعد الذي تيتم سريعاً حول رقبتها، وتطوّف به على العرصات والأحياء، تبحث عن سعد، وتتبع بكاءه الذي لا يعرف نهاية.
آه يا هاجر لست مجنونة!! بل مطعونة في قلبك وأمومتك، أمّا الجنون فهو الوصف الذي يلائم يداً تعبّر عن سعادتها بالرصاص وبالموت. أما آن لأحزانك أن تُجهض؟ وللرصاص أن يُعدّم، فتحلّ السعادة والزغاريد مكان دويّ الرصاص، ودفق الدماء المهدورة، والأرواح المزهقة.
من جديد تلمح عينيّ يديّ ابن خالي تمتدّان بخرفٍ نحو المسدس، ليعبّر عن سعادته وفخره برصاصاته الملعونة، غضب أحمر يجتاح نفسي، آهات سعدٍ تداهم روحي، انقضّ عليه دون وعي، أضربه كيفما اتفق، وحليمة المجنونة تزغرد باضطراب، فهي الوحيدة التي فهمتْ ما عجز الآخرون عن فهمه.
يجتمع بعض الأقارب، ويبعدونني بالقوة عن ابن خالي، الذي كدتُ أهصره بلكماتي المتشنّجة. تحوقل جدتي، وتضرب أمي كفاً بكفّ، وهي تقول: "أصابته والله عين، أو أصابه جنون حليمة". لكنّني أصرخ بلهاث يكاد يدمي صوتي قائلاً: "هذا هو الجنون بعينه، إطلاق العيارات النارية هو الجنون، توقّفوا عن القتل بدعوى الفرح... توقفوا...".
تصمتُ العيون... وفي البعيد ألمح حليمة المجنونة تزغرد مذبوحة، وهي تطارد عين الشمس التي تتهيّأ للأفول، وتجتهد كي تجد سعداً قبل أن يخيّم الظلام، فسعد يخشى من الظلام؛ لأنّه طفل صغير، والأطفال الصغار يخشون الظلام والرصاصات الطائشة.
(1) حدث في قريتنا