الكنز الصغير

الكنز الصغير

صالح سعد يونس /ليبيا

[email protected]

(1)

سحبت الـ((محرمة)) محاولةً إخفاء وجهها الذى ضجت ملامحه بحزنٍ وحرقةٍ شديدين.

أطرقت وهى تسوى الـ((قناع)) حين انزلقت من عينيها دموعٌ غزيرةٌ.. فيما يدها اليمنى تعبث بالـ((حصير)) الممزق.. وأصابع يسراها تنقر على اسطوانة غاز الشاى.. كل ذلك كيلا تنزلق إلى البوح فتتفتح الجروح.

البنت الصغرى تظاهرت بقراءة مجلةٍ قديمةٍ ممزقةٍ.. لكن عيناها تراقبان مقلتى أمها وهما تنزفان بالدمع.

(2)

سكبت أكواباً ثلاثةً من السائل البنى القاتم بعد أن برّدته قليلاً.. رفضت (( صابرين )) التى انتهت منذ يومين من نقل ملفها بعد نجاحها إلى المدرسة الثانوية الكبرى بوسط المدينة أخذ الكوب دون أن ترفع عينيها عن المجلة.. بينما الأم وابنتها الكبرى ((نجية))التى تنتظر على جمرٍ ملتهبٍ إعلان نتائج الثانوية العامة فقد تلهتا بـ((تغميس)) الخبز البائت بالشاى.

(3)

إستعدت الشمس للهبوط فقرر ((مرعى)) العودة وهو يسوق عربته الصغيرة وليس فى جيبه سوى دينارٍ واحدٍ تحصل عليه من تلك المرأة الأربعينية البدينة.. تلك كانت زبونته المفضلة.. وهو بالنسبة لها كان ألطف الحمالين وأكثرهم أمانةً ورزانةً.

وحسبما سمع ذات مرةٍ من أحد الصبيان فهى أرملةٌ تعول عدداً من الأولاد ولا تملك غير عقد ((فردغ)) انقطع ظهر اليوم وهى منحنيةٌ فوق أكياس الخضار لمساعدة مرعى ذا الأربعة عشر ربيعاً على وضعها فى عربته الـ((برويطة)).

تناثرت حبات العقد فاجتهد الفتى فى جمعها فى حين جلست هى تنظم ما انفرط فى الخيط الذى أعادت عقده من جديد وقد طفحت عيناها على أغلى هديةٍ قدمها لها زوجها قبل وفاته بسنةٍ.

 (4)

بدأ الظلام يحط رحاله بينما سكنت الشوارع الضيقة وغرقت فى صمتٍ مطبقٍ مما جعل صوت الـ((سّبّاط)) الأسود المصنوع من النايلون الردىء يرتفع ثم يرتد وجيبه ممتزجاً مع صرير العربة الناجم عن احتكاك العجلة بمثبتى الحديد.

(5)

ركن الـ((كريولة)) خلف الباب.. جلس على طرف الـ((حصير)) فيما أحضرت له نجية صحناً به بعض الزيت والسكر.

اخرج من جيبه الدينار.. مده لأمه.. حدقت به طويلاً قبل أن تمد إليه يداً مرتعشةً وهى تقول بصوتٍ مخنوقٍ:

- أهذا كل ما تحصلت عليه اليوم..؟.

(6)

إحتارت الأم فيما تفعل بالدينار فهو لن يشترى لهم غير الخبز الجاف.. لم تستطع تمالك نفسها فبكت.. أجهشت معها

نجية فقفز الولد وقد أطبق الضيق على صدره.                          

أما صابرين التى ولجت عامها السادس عشر فقد كانت تجلس فوق الـ((برويطة)) المقلوبة ممسكةً بإحدى فردتى مداس أخيها تخبط به الأرض محاولةً كبح جماح الدموع المكتظة بعينيها. 

 (7)

من كعب الـ((سّبّاط)) انزلقت بعض كتل الطين والحصى.. ثم فجأةً سقطت كويرةٌ ذهبيةٌ.. قلّبتها فى راحة كفها فتراكض النبض بقلبها فرحاً وتزينت شفتاها بابتسامةٍ عريضةٍ.

صاحت بأعلى صوتها نافثةً البشارة فى وجه أمها وشقيقيها.. علت الفرحة قسمات أخويها غير أن أمها أطرقت وهى تقول:

- هذا ليس من حقنا.

- هذا رزقٌ بعثه الله لنا فكيف نرفضه..؟!. ((أردفت نجية بدهشة)).

- يا ابنتى نحن لا نرفضه.. بل نعيده لصاحبته.. حتى هى راقدة ريح وقاعدة على عويلة قزازين.

تذكر مرعى أن المرأة حدثته وهى تنظم حبيبات العقد أنها ستسافر غدأ صباحاً لتقيم فى البر بعد أن باعت بيتها.. قصد

زميله الذى حدثه أول الأمر عن المرأة لكنه لم يجده .

فى الصباح.. ذهب يبحث عن بيتها.. مر برفيقه ذاك بيد أن المرأة كانت قد رحلت.

رجع الفتى وهو يداعب الكنز الصغير النائم بجيب بنطاله.. فيما أمه تذرع الـ((صالة)) طولاً وعرضاً بنفسٍ مضطربةٍ.. بينما البنتان تنتظران.. تتبادلان الأحاديث.. وتحلمان بوجبةٍ شهيةٍ.