دائرة الزيف المقدس
مزاجي اليوم متكدر، بندول الزمن متأرجح ما بين صعود وهبوط، أبحث عن النظارة لأضعها في جيبي، أشحن هاتفي المحمول في الزمن الذي استغرقه في لبس الجورب والحذاء، أحمل رواية أمريكية مترجمة بيد وشنطة الزبالة باليد الأخري، أهبط اثنين وعشرين سلما، مائتان خطوة وأقذف الزبالة علي أطراف الكومة المهولة، أتجنب الاحتكاك بالخراف النابشة لتلال القمامة، فراء الخراف والنعاج متسخة، تباينت مواطن الكلأ في حينا عما هو متعارف عليه، يفرغ الرعاة أكياس الزبالة من محتوياتها، المأمأت خافتة وكأنها حشرجات، والسيدات العجائز اللائي يبحثن عن كل ما يمكن أكله أو بيعه ينهين عمل اليوم، يحملن الأكداس من زجاجات البلاستيك والعيش الجاف والمتعطن والمخلفات الصلبة من أخشاب وحدائد وبلاستيك، تغادرن المكان، تفوح ملابسهن بروائح نتنة، تبعدني إشعاعات العفونة، أتخطي الساحة قاصدا موقف الميكروباص، خمسمائة متر تقريبا ويبتلعك زحام الطلاب، مئات الطلاب يطاردون السيارات، ووقوفي هكذا لن أجني منه سوي التأخر عن العمل، فأمشي باتجاه كوبري بين السرايات.
يرأف سائق بحالي، يقف، أدفس جسدي في بطن السيارة، وتفرغ السيارة إلا مني، وسرعان ما يستولي التلامذة عليها، حتي الآن والمشاهدة مكررة، يأبي السائق ركوب الدائري من طلعة الشوربجي، يسلك أسفل الكوبري، بيصعد من طلعة مدينة مغتربات جامعة القاهرة، تكدست السيارات من شتي الاتجاهات، صنبور السيارات لم ينقطع، أضحي الانسلال من هذا الزحام من أعاجيب الزمان، تكاتك، نقل خفيف وثقيل، نصف نقل، قلابات، أتوبيسات، موتوسيكلات، لوادر، ودراجات وكأنني في معرض كوني لشتي أنواع المركبات، تلاشت الاتجاهات، الجميع يحاصر الجميع، ما من فرجة للمرور، ألف عقل أو أكثر يتحركون كيفما يعن لهم، والمأساة الكبري في التكاتك، كالديدان تتلولب وتفرض قانونها علي الجميع، يتذمر الركاب، لن يفيدهم التذمر، أتلهي بمشاهدة العبثية المتجسدة، الأفضل للركاب أن يغادروا مقاعدهم، ويمشوا إلي مصالحهم بين العربات المتناطحة، ولكن ماذا تقول عن البلادة التي سيطرت علي الناس؟ الشارع في أي بقعة من بقاع الدنيا ينقسم إلي حارتين، إحداهما ذهاب والأخري إياب، ولكن في هذه الرقعة الحارة الواحدة تنشطر إلي عشرات الحارات، الهمهمات تتعاظم بين الزبائن:
ـ أكيد سيارات الإخوان تعمدت شل الحركة.
ـ مظاهرات الجامعة هي السبب.
ـ أتوبيسات النقل العام والمدارس هما مكمن الأزمة وجوهرها.
تنوعت التحليلات، ولم يجرؤ أحد علي الافصاح عن الحقيقة، السائقون يعتقد كل واحد منهم ـ من أثر المخدرات ـ أنه علي حق، والآخرون ـ جميعهم ـ يكسرون ويحطمون قواعد المرور، يدركون الحقيقة ولكنهم يخشون ردود أفعال قادة السيارات، فالقادة دوما لا يخطئون، وأفعالهم نبراس يهتدي به الجميع، أكثر من ساعة كاملة ولم تتزحزح السيارة قيد أنملة، لا مفر من الترجل، خطواتي وتيدة تحتك بأجساد السيارات وخاصة الإطارات، خليط عجيب من الناس والسيارات احتل الكوبري، تتصادم عبر الأثير شتائم الجميع ولعناتهم، أمر بالجامعة وحديقة الأورمان والشارع المؤدي إلي ميدان الدقي ولا ألمح شرطيا واحدا، وكأن وزارة الداخلية ألغيت الداخلية وسرح أفرادها، أين دراجاتهم البخارية ونفيرهم المخيف والمرعب؟
قصدت ديوان (العدلية)، لم تمر ساعة ويستدعي مدير الإدارة ليخبرني أن مستشار التحقيقات يطلبني، أسأل عن مكتبه، أطرق الباب، ألف (الأكرة) اثنان من المفتشين بالداخل، يقول لي أحدهما:
ـ انتظر سيادة المستشار.
أجلس علي كنبة الفوتيه، ألمح دفتر الحضور والانصراف بيد أحد المفتشين فأسأل:
ـ خير، هو فيه إيه؟ لا يجيبني أحد، وكأن علي رءوسهم الطير، يأتي بوجه مكفهر، يسأل:
ـ من مسئول عن الدفتر؟
أجيب باقتضاب:
ـ مدير الإدارة.
ـ قال لي: إنك المسئول.
ـ بالطبع لا
ـ من أصدق؟
ـ الأوقات التي كنت مسئولا فيها عن الدفتر معدودة وقليلة بناء علي تعليمات المستشار المسئول عن الادارة.
ـ أنت المسئول عن الدفتر أمامي.
ـ كما تري سيادتك.
ـ الدفتر ملئ بالتجاوزات، وقت الانصراف غير مسجل.
ـ سأراعي هذا الأمر منذ الآن.
ـ لم تحترم ملاحظاتي التي سجلتها بيدي بالدفتر.
ـ هذا الوقت بالذات لم أكن مسئولا عن الدفتر ولم يكن بحوزتي.
ـ كلام مرسل لن أعول عليه.
ـ تحت أمر معاليك.
نظر إلي المفتشين وطلب منهم إعداد مذكرة بالتجاوزات الموجودة بالدفتر طوال ثلاثة أشهر، وإجراء تحقيق فوري معي، سألت:
ـ انتظر التحقيق؟
ـ أأنتظر التحقيق؟
يأمر:
ـ هات بطاقتك وكرنيهك.
ـ ليس معي كارنيه.
ـ لن يضيف إلي شيئا.. وهنا دخل المستشار المسئول عن إدارتي إلي الغرفة، وتعانقا سويا، فبادره بالقول:
ـ سأحيل موظفي إدارتك إلي التحيقق.
فرد عليه مقهقها:
ـ ولع فيهم.
ينسحب مستشار إدارتي من الغرفة، يتركني في حيص بيص، أقرر عدم الاستسلام للتهديات، بالفعل لم أكن مسئولا عن الدفتر، ولن أتحمل أوزار غيري وإن كان مدير الإدارة، تحملت الكثير من الاهانات بدلا عنه.
يتوعدني:
ـ ماذا أفعل فيك؟
أعقب وجلا:
ـ حسب ما ينتهي التحقيق.
ـ أيعني هذا أنك غير خائف من التحقيق؟
ـ اعتادت مسيرتي مثل هذه الأنواء.
ـ ما فكرت يوما أن أؤذي أحدا.
ـ إلا أنا سيادتك، فقد أصبحت فريسة مكتوفة الأيدي لكل المستشارين.
ـ لم يقل أحد لا تمتثل للتعليمات.
ـ من الذي قال إن مواعيد الانصراف طوال شهر رمضان الواحدة والنصف فالتفت إلي المفتشين صائحا:
ـ أين دفتر هذا الشهر؟
تلجلجت الألسن، لم تهتز الأحبال الصوتية، ضاع بريقهما الكاذب، أدركت اللغز، وتحسست يداي مفتاحه، أضحي موقف المستشار باهتا، ولكي يتخلص من ارتباك الموقف قال:
ـ برجاء مراعاة التعليمات واترك لي رقم هاتفك المحمول.
طلبت بطاقتي اللابدة في يد المفتش، وكأن اشعاعاتي أحرقت وجهه، فالتفت إلي المستشار منتظرا الأوامر، تفحصته بنظرات شامتة، وأخيرا أعطاني البطاقة وعلي مبعدة عشر خطوات من المكتب وجدت هشام منتظرا، بادرني مستفهما:
ـ ماذا فعل معك؟
ـ لاشىء، سيمفونية تبكيت مشروخة.
ـ سبقتك إليه، لتوضيح سبب حضوري إلي (العدلية) يوم الاستفتاء علي التعديلات الدستورية.
ـ بل حضر تسعة موظفين، فلماذا لم يستجوبهم كما تدعي؟
ـ لأنني أشرفت علي الدفتر يومها، ولم أسجل وقت الحضور والانصراف للعاملين، وسمحت لهم بالانصراف الثانية عشرة ظهرا دون أذونات رسمية.
ـ العشرات غيركم حضروا هذا اليوم في شتي الإدارات، فلماذا أنت بالذات؟
ـ لأن أولاد الحلال أنهوا إليه مضمون بوستاتي وتويتاتي علي مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تنعي الواقع السياسي المرتبك الذي نحياه، باختصار قالوا إنني معارض.
ـ مر علي هذا الحدث أكثر من ستة أشهر فلماذا استدعاك الآن؟
ـ ربما يريد إغلاق الملفات قبل رحيله.
هذا التاريخ المروي لم يعهد سبيلا لوجداني، أجهشت بالحيرة من هذا الحكي غير مترابط البناء، أيعقل أن يفتش البعض في ضمائر البعض الآخر؟ علي كل فرد أن يمسك ضميره بيده ويعرضه علي كل حاكم، ليستكشف تضاريسه وكوامنه، يشيدون أمام كل وزارة مجهر عملاق للكشف عن خبايا النفوس، عموما الموضوع برمته لا يتعلق بهشام، ففي صباح اليوم الفائت طلب مني مسئول الأمن عدم تمكين (زكريا) من التوقيع في الدفتر، سألته عن السبب ، فقال لي هامسا:
ـ الكبير أمر بتوقيع المذكور في دفتر السكرتارية. فكتبت في الدفتر بمحاذاة خانة زكريا:
ـ أمر السيد المستشار الكبير بنقل توقيع المذكور إلي دفتر سكرتارية معاليه. أقنعت رجل الأمن بالتوقيع، شعر بخطورة توقيعه، استشعر وقوعه تحت طائلة القانون، فاشتكي للكبير هذا التصرف الأهوج، فأسرها في نفسه، لحين تمهيد التربة ونتف الهالوك الذي هو أنا، بالطبع لا يعلم أنني نصحت زكريا بالذهاب إلي قسم الشرطة وتحرير محضر بالواقعة، هرول زكريا إلي القسم، وقبل ولوجه القسم اتصلوا به هاتفيا لإثنائه عن عزمه، هذا الـ «زكريا» صدر قرار من الكبير بإنهاء خدمته لانقطاعه، لم يراع القرار صحيح القانون، لأنه سطر علي عجل وبهدف الانتقام، حكايته من دروب العجب، تارة يقول إنه ضابط أمن دولة، وأخري يسر في آذان البعض إنه ضابط مخابرات، وثالثة يدعي أنه مترجم للغة العبرية بالمؤتمرات الرئاسية، يا سيدي كيف تجمع بين كل هذه الوظائف والمهام بجانب وظيفتك بـ (العدلية) كمدخل بيانات؟ لا يجيبك إجابة شافية مقنعة، يصمت، يشهر طبنجة ميري، يضعها في الجراب ثانية، يخط حروفا عبرية، استمال (يعقوب) إلي دائرته، يعقوب موظف بالإدارة لم يبلغ عمره العشرين عاما، حفيد نائب الرئيس جمال عبدالناصر، توطدت العلاقة بينهما، وأضحي زكريا المستشار الحياتي ليعقوب، وفجأة دب بينهما الخلاف، ولجأ يعقوب للكبير، يشكو إليه أن زكريا غرر به وأقنعه باقتراض عشرين ألف جنيه من البنك علي أن يسدد زكريا الأقساط بانتظام في استهلال كل شهر بقيمة ثلثمائة جنيه، ولكن زكريا حصل علي القرض ولم يسدد أي أقساط لمدة ثلاثة أشهر، بالطبع استدعي الكبير زكريا وأمهله اسبوعا لتدبير المبلغ كله دون نقصان، عرض زكريا نقل مستندات القرض علي راتبه، أسفرت المفاوضات والمساومات عن اصدار قرار الفصل، وفي خضم الحدث خبز القرار دون اختمار، فتلقفته المحكمة مصدرة حكما بإلغائه، علي رأي المثل جاء النقب علي شونة تبن، استشاط الكبير غضبا، ولكن لا مفر من تنفيذ الحكم، عاد زكريا ومتاعبه تسبقه، الكبير كبير والنص نص، لكن الحكاية لم تكتمل فصولها، وتوقيع مدير الأمن أسفل الملاحظة الموازية لاسم زكريا لخبطت التخطيط، واستدعاء الدفتر والعبد المأزوم غرضه الاطلاع علي ما خط منافيا رغبة الكبير، ربما يستمر عرض المشهد طويلا، حلقات وحلقات من السأم والضجر، تزوير التوقيعات والتوقيتات تهم سابقة التجهيز، مفتش في الصباح وثاني في الظهيرة وثالث في الساعة الثانية، صفوف الموظفين تنتظر ختم المغادرة، إدارة عامة للتفتيش، إدارة عامة للتحقيقات، إدارة عامة فرعية للتفتيش وأخري عامة فرعية للتحقيقات، إدارة للتفتيش الفني عن خبايا الضمائر، وأنا الموظف الوحيد الخاضع لحفريات هذه الإدارات العملاقة، الأعمال المنجزة ما بين التاسعة والثانية والنصف ضئيلة للغاية لا تري بالعين المجردة، ودفاتر الحضور والانصراف دائرة الزيف المقدس، اثنان وعشرون عاما لم أعش هذه الخيالات إلا هذا العام، أتجرع كأس الهوان بيد القاصى والداني، تذكرت صرخة نابليون المفجعة:
ـ ويل للمهزوم.
حفرت خندقا، اندسست بين حوائطه، تدثرت بعباءة سمكها غليظ، رضيت باللحد ولم انتظر مشيعين، ولكن ـ للأسف ـ الظاهر أن صيتي بلغ العنان، ومشروع إذلالي القومي قادم يشخب في رمال نفسي الهائمة، يا ليتني أملك نعومة الثري ولزوجة الأنفاس الهاربة، أيمكن لفرسان العهد البائد عبور الخندق؟؟ وما أنت بمقدام!
وسوم: 637