نزهة
أول مرة تخرج من البيت منذ أن قدمت إلى هذه البلدة الصغيرة النابتة في واحة صغيرة في الصحراء . تبدو في
خطواتها وحركاتها وصوتها عصفورا تحرر من قبضة قفص . تسبقه أحيانا . أسعدته فرحتها الطروب . سماء نوفمبر في لون الرصاص تنقطها في هذه الناحية أو تلك غيمة رمادية أو بيضاء . عجبت حين مال بها إلى نخلة
صغيرة دانية العذوق . لا تعرف سوى النخل العالي الذي لا يبلغ ثمره إلا بالصعود الذي يبرع فيه قلة من الناس .
قطفا حفنة تمرات يغلبها الجفاف وتابعا المسير سعيدين . وبعد أن تجاوزا نخل الواحة ومزارعها الصغيرة المسورة بأسيجة الجريد والحطب دخلا واديا عريضا تناثرت فيه شجيرات ونباتات مختلفة الأصناف والأحجام .
هتفت : ماء !
فضحك وقال : ماء ، ولكن !
نظرت إليه تستوضحه دون كلام .
قال : انتظري حتى نصله !
بعد دقائق كانا على حافته . سلسال نحيل في صفاء البلور ولون خليط الذهب والفضة المذاب . في قاعه القريب
حصا أبيض نقي اللون متباين الأحجام يسترجع الناظر إليه قول حمدونة الأندلسية : يروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم .
قالت باسمة : سأشرب .
ضحك وقال : لا تشربي !
سألته ناظرة إليه : لماذا ؟
_ مالح .
_ مالح ؟ !
_ للأسف . يأتي من عين ملحة . . .
وأشار بيده شرقا وتابع : العين على بعد نصف كيلو متر . هيا ! اقتربنا .
سارا في الوادي مع مجري الماء ، وبعد دقائق وصلا تكوينا صخريا في هيئة نصف دائرة يطل على منخفض يشكل امتدادا للوادي . سلسال الماء ينحدر من فوق التكوين الصخري خيوطا وشرائح هادئة تزيدها أشعة الشمس
صفاء وتألقا . قال : اقعدي !
ردت مستنكرة : أقعد ؟! سألم الحطب . ما جئت لأقعد .
لما بعض الحطب وأوقدا نارا صغيرة أعدا عليها القهوة . قالت في شجن والدمع يلمع في عينيها : من زمان ما شربت قهوة النار أو شايها .
شربا قهوتهما سعيدين . قالت في فرح طفلة : انظر !
مضى بصره في جهة إشارة أصبعها . على قرابة مائة متر غربيهما كان زوجا يمام يتجاوران
فوق جريدة نخلة
متوحدة مائلة الساق شمالا . قال مبتسما : يشبهاننا .
فضحكت ورمته بعود اقتطعته من عشبة . انقضى على زواجهما أربعة أشهر . في عالمهما الغض الكثير ليبتهجا به . هذه سنته الثانية في البلدة الليبية التي يعمل فيها مدرسا . تزوجا في الإجازة واصطحبها معه .
قال : سأريك ما خلف الجبل .
يشرف الجبل المقصود من الجهة الجنوبية على الوادي الذي يجلسان فيه . عالٍ عريض السفح . بدآ صعوده .
قال : أتعرفين بم يذكرني ؟
قالت مستمسكة بكتلة عشب : بمهْ ؟
_ بقوز الرجال في مواصي القرارة .
_ الذي سرق اليهود رمله ؟
_ نعم . كان لا يصعده من الفتيان إلا الأشداء .
قالت ضاحكة : نحن قويان . اصعد وإلا سبقتك !
بلغا القمة . وراء الجبل واد عريض تحيط به التلال الرملية المنبسطة من ثلاث جهات وتتفرق فيه شجيرات الوزال ( الرتم ) . حركت النسائم ما انبث من خصل شعر ناصيتها الأسود من تحت ملاءتها البيضاء . تتلفت منبهرة في كل
اتجاه . فجأة قالت : كلاب !
سأل : أين ؟
_ بين الشجرات .
كانت تشير بيدها .
لمح ما أشارت إليه . حوالي عشرة في لون رمل الوادي .
قال جاذبا يدها : انزلي !
_ لمهْ ؟
_ انزلي !
وجذبها بقوة مترفقا رغم توتره وتسرعه .
ألحت : لماذا تسرع ؟
_ ستعرفين فيما بعد .
_ خفت منها ؟
_ خفت .
نزلا إلى الوادي فألقى غلاية القهوة في كيس البلاستيك الأزرق . التفت ناحية الجبل وقال : أسرعي !
رأى سيارة جيب صفراء اللون تخرج من مزرعة فرفع يده إليها . اتجهت إليهما مسرعة في سحابة غبار .
كانت تقودها خديجة طالبته في معهد المعلمات بالبلدة . قالت : دهواري ( نزهة ) يا أستاذ سلامة ؟
وصافحت الزوجة . لم يرد عليها إلا بعد صعود زوجته إلى السيارة . قال : دهواري كادت تنتهي بمأساة .
وركب . سألت الزوجة : لم تنتهي بمأساة ؟
_ ما رأيناه ذئاب لا كلاب .
فشهقت : ذئاب ؟
قالت خديجة : كلما ربى الناس كلبا قتلته الذئاب .
وسوم: العدد 645