ويؤثرون على أنفسهم...

قال التلميذ لشيخه: ذكرت لنا – يا أستاذنا الجليل – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  تمرّ عليه الأيام الكثيرة لا يوقد في بيته نار يطبخ فيها طعامه، وأنه كثيراً ما كان يعصب بطنه بحجر كي يسكن جوعه، أفهذه عن قلة المال؟ أم عن اهتمامات أولية يصرف إليها المال قبل توجيهه قِبَل الطعام؟

قال الشيخ: بارك اله فيك، إن سؤالك ينم عن ذكاء وبصيرة، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة مهاجراً وصحابته الكرام، وتركوا أموالهم ودورهم في مكة فراراً بدينهم، وحين قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم  بينهم وبين الأنصار، فقسم هؤلاء بينهم أموالهم، ولم يكن الأنصار أغنياء، وكان جلُّ اهتمام المجتمع المسلم بناءَ المجتمع الإسلامي في المدينة، وحمايتَه من بحر الكفر الذي يحيط بهم، ويتربص بهم الدوائر، فانطلقت منها السرايا والغزوات لتحقيق ذلك، وهذا كلفهم وقتهم، وأموالهم، فعاشوا سنوات طويلة في عسر وفقر.

قال التلميذ: صدقت يا أستاذي، فقد مات النبي صلى الله عليه وسلم  ودرعه مرهونة عند يهوديّ

قال الشيخ: وكان المسلمون إذ ذاك يرون ضمن توجيهات قائدهم ومربيهم، أن على المسلم التخفيف من الطعام ليبقى الجسم خفيف الحركة، فقال صلى الله عليه وسلم : ((بحسب ابن آدمَ لقيمات يقمن صلبه))، وأكد على هذا حين قال: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية))، أما الإكثار من الطعام وتعدد الأصناف فيدل على الركون إلى الدنيا والانغماس في ملذاتها.. والبعد عن الجهاد والإعداد له.

قال التلميذ: نعم، لا يجتمع في قلب رجل حبُّ الدنيا وحبُّ الآخرة. والجهادُ مشقة ينأى عنها راغب الدنيا المتثاقل إليها.

وتابع الشيخ: وعلى الرغم من قلة الزاد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يملك الكثير من السلاح الذي يرهب عدو الله وعدوَّنا، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعنده تسعة أسياف، وسبعة أرماح، وثلاث دروع وخوذتان ومِغفران (والمغفر غطاء الوجه) وقوسان ونبّالة، وهكذا يكون المسلم الذي يريد أن ينشر الإسلام في بقاع الدنيا، ويحافظ على مكانة أمته تحت الشمس، وفي مقدمة الركب، دون أن يُكره الناس على الإسلام، إنما ليمنع الأعداء أن يستخفوا بنا، لقد تركنا الجهاد فتداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وهانت علينا أنفسنا فهُنَّا على الآخرين.

قال التلميذ: لعلك يا سيدي تريد أن تصور لي بعد هذه الإضاءة حبَّ المسلمين بعضِهم بعضاً؟

قال الشيخ: أجل يا بني، إن الأشعريين وهم قبيلة من اليمن أفرادها متحابون متكاتفون إذا خرجوا للغزو ففَنِي زادُهم أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة تنادَوا، فجمعوا ما كان عندهم من طعام في ثوب واحدٍ، ثم اقتسموه بينهم بالسوية، أفرأيت إيثاراً كهذا الإيثار؟

قال التلميذ: لا والله، فهذه قمة التوادِّ والتراحم والتكافل.

قال الشيخ: ولهذا أحبهم النبي صلى الله عليه وسلم  ومدحهم فقال: ((فهم مني وأنا منهم)).

قال التلميذ: يا سبحان الله ما أعظم هؤلاء وأكرمهم، إن مجتمعهم لفاضلٌ، وإن حياتهم لسعيدة، أهناك صورة أخرى للإيثار يا شيخي الجليل؟

قال الشيخ: أعِرني سمعك وقلبك وأقبل علي بكليّتك.

قال التلميذ: سمعاً وطاعة ها أنا بين يديك، مقبل عليك.

قال الشيخ: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم  في مسجده بين أصحابه يفقههم في الدين ويبث فيهم الإيثار وبناء المجتمع الفاضل فيقول: ((من كان معه فضلُ ظهر فليعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضلُ زاد فليعُدْ به على من لا زاد له)) ويوضح الآثار الإيجابية لهذا الخلُق الفاضل، ويدخل رجل، فيدنو منه صلى الله عليه وسلم  ويخاطبه في خجل تلمحه من نبرته فيقول: يا رسول الله إني مجهود أصابتني فاقة ولزمني الفقرُ وسوء العيش.

فينظر إليه الكريم الرحيم ويبتسم ويقول له بلسان الحال لا المقال: أبشر فتسجد الطعام والمأوى إن شاء الله، ثم يلتفت إلى أنسٍ قائلاً: ((يا أنس؛ قم إلى بيت أم المؤمنين عائشة، فالتمس لهذا الرجل طعاماً أو تمراً)) فيقوم أنس مسرعاً إلى بيتها ويسألها ما عندها فتقول: لا والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم  بالحق ما عندي إلا الماء.

فيعود أنسٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فيقول: يا رسول الله ما وجدت عندها إلا الماء، فهي إذاً بحاجة إلى الذي يحتاجه هذا الرجل!! زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحب نسائه إليه، وابنة صاحبه وحبيبه الصدَّيق، لا تجد في بيتها إلا الماء؟! يا ويح المسلمين الآن! إن بيوتهم مليئة بأطايب الطعام، ولذائذ الشراب وأصناف المأكولات، لكن قلوبهم سوداء خالية من الإيمان، وعقولَهم لا تعرف التفكير إلا في توافه الأمور، يسهرون فيما يغضب المولى وينامون على اللهو، ويَغطون في مستنقعات الغفلة، وينحدرون في متاهات الضلال.

ويرسل النبي الكريم إلى أزواجه كلهن على التتابع يسألهن قِرى هذا الضيف الجائع التعب، فيجبنه بما أجابته الأولى: لا والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء! إلا الماء!

وليس يجد بداً من الاستعانة بأصحابه هؤلاء الذين خلَّفوا الجاهلية وراء ظهورهم، ولازموه ليرتفع بهم إلى سماء الخير والبر، فيقول: ((من يَضيف الرجل هذه الليلة؟)) فيقوم رجل من الأنصار – رضي الله عن الأنصار، فقد كانوا قادة الإسلام وحماتَه – فيقول: أنا يا رسول الله، إنه ضيفي، وسترى ما تَقرُّ به عينُك، ويستأذن هذا الصحابي الجليل رسول الله، فيأذنُ له، وينطلق بضيفه إلى بيته، حتى إذا وصل قال لزوجته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإكرامه من إكرامه، وضيفُ العزيز عزيزٌ.

قالت المرأة: أهلاً وسهلاً ومرحباً..

قال الرجل هامساً: هل عندك شيء نقدّمه له؟

قالت المرأة: لا إلّا قوت صبياني.

قال: أو لم يتعشوا الليلة؟

قالت: بلى ولكنهم اعتادوا أن ينالوا شيئاً قبل النوم.

قال: فعلليهم هذه الليلة بشيء، وإذا أرادوا شيئاً فنوِّميهم، لا يضيّقوا على الضيف.

قالت: أفعل إن شاء الله تعالى.

وشاغل الأنصاري ضيفه بأنواع الحديث حتى نام الأولاد فقامت المرأة إلى الطعام وكان قليلاً لا يكفي سوى الرجل؛ ولكن كيف له أن يستسيغ الطعام – على جوعه – وهو قليل؟!، وأنّى له أن يقبل عليه وصاحب الدار لا يمد إليه يده؟!

وتفتقت للأنصاري فكرة رائعة إذا نفَّذها زال الحرجُ، وأكل الضيف وشبع.. ما الذي فكر فيه يا ترى؟!

لقد قال لزوجته: إذا وضعتِ الطعام ودخل الضيف فأطفئي السراج، وكأن زيته قد نفد ونمد في الظلام أيدينا إلى الطعام نوهمه أننا نأكل، فيقبل عليه.

وهكذا فعلت، وجلس الضيف، وتصنَّع الرجل وزوجتُه صنيع الآكلين، مِنْ مدِّ يدٍ وتحريك فم ومضغٍ، فأكل الرجل حتى شبع، وبات الزوجان خاويين جائعين لم يأكلا.

فلما أصبح الصباح غدا الأنصاري بضيفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآهما تبسم صلى الله عليه وسلم  وقال له: ((لقد علم الله – وهو العليم الخبير – ما صنعتما بضيفكما الليلة، ورضي بما فعلتما وأثابكما عليه الثواب الجزيل)).

قال التلميذ لشيخه: ما أعظم هؤلاء الرجال وما أعظم نفوسهم وما أشد كرمهم.

قال الشيخ: إنهم تعلموا ذلك من سيدهم وقائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ضرب لهم في الإيثار والكرم أروع الأمثلة فتشربوها وعملوا بها.

قال التلميذ: أفلا قصصت عليّ واحدة يا سيدي؟

قال الشيخ: حبّا وكرامةً يا بني..

فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم  بثوب جميل مخطط نسجته بإتقان، وخاطته ببراعة، فقالت: يا رسول الله، هذا الثوب هديتي إليك، فقد والله سهرت الليالي وأمضيت الأيام في صنعه ليكون هدية تليق بك يا رسول الله.

فقال: ((جزاك الله عن نبيه خيراً، إنه -وايم الله - ثوب جميل، وهدية غالية أحتاجها))، ودخل إلى بيته فلبس هذا الثوب وخرج به على أصحابه، فنال استحسانهم، وقال أحدهم: ما أحسن هذا الثوب يا رسول الله اكسُنيه.

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم  بينهم قليلاً ثم عاد إلى بيته فخلع الثوب وطواه، ثم أرسل به إلى الذي طلبه.

فقال له القوم مؤنِّبين: كيف تطلب ثوباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم  لبسه محتاجاً إليه؟ وكيف تطيب نفسك به فتأخذه وأنت تعلم أنه صلى الله عليه وسلم  لا يرد سائلاً؟

شعر الرجل بأنه أخطأ حين سارع إلى استهداء الثوب، ولكنه اعتذر قائلاً: والله لم أطلبه لألبسه ولكنه حين لامس جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعرفت أنه ثوب مبارك رجوت أن يكون لي كفناً.. ...ومات الرجل وكفنوه به.  ...................

رياض الصالحين: باب الإيثار والمساواة

وسوم: العدد 647