المتفرج، إلى الذين يختارون الفرجة بينما الأعداء يذبحون الأمة
لم يكن الأفق قد بشر بالفجر حين وجد نفسه وحيداً في صالة المطار .. وقف عند البوابة مترددا بين البقاء والسفر ، وسرحت خواطره في حقول الأمس لعله يعيش الحلم من جديد ، ودمعت عيناه ، وتمنى من أعماق روحه لو كانت (وداد) معه تخفف عنه آلام الرحيل ..
ولفحته نسمة باردة من نسمات تشرين أيقظت في جوانحه ذكريات الوحدة, واجتاحته العاصفة وهو يرى نفسه مسافراً بلا أنيس , وتلفت يبحث حوله بلهفة لعلها في آخر لحظة غيرت رأيها وجاءت تودعه ، لكنه سرعان ما تذكر أنها لن تأتي وأنها قالت له في المساء :
- فايز ، أنا لا أطيق لحظات الوداع في المطار ، دعني أودعك الآن
وطبعت على خده قبلة ناعمة وانتهت لحظات اللقاء الأخير كالحلم ..
**
حين صعد الطائرة كانت الساعة تشير إلى الرابعة عند الفجر ، أخذ مكانه بجوار النافذة, وأغمض عينيه .. كيف لم تأتي لوداعه ؟ كيف طاوعها قلبها أن تسلمه وحيداً للغربة والوحدة ؟وكيف له أن يصبر على فراقها بعد أن ملأت عليه حياته ؟
- الحزام لو سمحت .
قطعت عليه المضيفة فيض أفكاره ، فربط الحزام دون رغبة ، فيما بدأت الطائرة رحلتها فوق المدرج ، التفت إلى جاره فوجد المقعد خاليا فازداد شعوره بالوحدة ، واشتعل الحنين في قلبه إلى وداد ، وراح يفكر : تراها نامت هذه الليلة ؟ مستحيل . لابد أنها قضت الليل تفكر فيه ، ولعلها الآن في شرفتها بين الياسمين تتطلع إلى السماء باحثة عن طائرته ، وربما تدير المسجل لتسمع قصيدته التى أهداها لعينيهاالخضراوين، وتذكر أيامهما معاً وأحاديث الياسمين ، فعادت به الذاكرة إلى اليوم الذي فاتحها فيه بالزواج حين قالت له والحياء يطوف بأهدابها :
- انتبه يا أستاذ فأنت تتحدث في السياسة !
ابتسم وقال :
- لكنها سياسة سلمية كما ترين , فأنا لا أحب المعارك .
وتنهد وأردف :
- لقد مللت يا وداد ، وأتمنى أن يستقر بي المركب .
فغمزت بدلال وهمست :
- و هل أنت واثق أنني الشاطئ الذي تريد ؟
- كل الثقة ، وحين تقبلين سأحطم المركب عند قدميك .
- إلى هذا الحد ؟
- وأكثر .
صحا فجأة من سرحانه على وقع مطب هوائي باغت الطائرة ، فتململ في مقعده ، وراح يلعن في سره ذلك الانفجار الذي اقتحم حياتهما على غير ميعاد ، وتذكر يوم جاءته ودادشبه منهارة، ودون مقدمات راحت ترجوه :
- فايز .. أرجوك دعنا نسافر فوراً .
- ولكن .. لماذا ؟!
- لقد حدث انفجار آخر في شارعنا ..
- انفجار ؟!
- أجل .. هذه المدينة لم تعد تطاق يا فايز .. يجب أن نسافر .
- لكن .. إلى أين ؟
- إلى أي مكان .. أي مكان بعيدا عن هذه المدينة المجنونة .
- وداد ..
- هل تعلم أن جارنا ( تحسين ) قتل في الحادث، وأخذوا أبي للتحقيق .
صحا من جديد على ارتجاج الطائرة ، وأرسل بصره عبر النافذة ،يبحث عن الفجر، وأحس برغبة عارمة ليلقي بنفسه من الطائرة ويعود إلى وداد ، لكن سبق السيف العذل ، قال في نفسه وحاول ان يسلم نفسه للمقادير، لكنه لم يستطع، وظل يمني نفسه أنه سوف يختصر سفرته ويعود إليها فوراً،
أشعل سيجارة أخرى راح يرشف منها دون شهية، وتمدد في مقعده، وأغمض عينيه على أحلام اللقاء ..
- فايز ، أنت أملي الوحيد في هذه الدنيا وأتمنى أن تدوم حياتي معك إلى الأبد ، بلا نهاية ، بلا نهاية .
- إذن .. لماذا تدفعين بي إلى الرحيل ؟!
- حبي .. حبي هو الذي يجعلني أكتم عواطفي وأحكم عقلي .
- عقلك ؟ يا وداد الحب شيء والعقل شيء آخر .
- لكن .. يا فايز .. الأحوال تسوء يوما بعد يوم ولم أعدأحس هنا بالأمان !
- يا وداد .. حبنا هو الأمان الوحيد .
- لكن يا فايز ... هذه الانفجارات التي تهز المدينة صباحا ومساء .. ألا تعني لك شيئاً ؟
- يا وداد .. المهم عندي .. حبي وحبك .. وبعدنا فليكن الطوفان !
شهقت ساخطة، كأنمايئست من الحوار، وآثرت الصمت وألقت ببصرها نحو الأفق البعيد الذي بدأ يغرق في العتمة ثم قالت بانكسار :
- أرجوك يا فايز ، أنت دوماً تأخذ الأمور ببساطة ، لا تهتم لشيء ، بينما قلبي يكاد يتوقف كلما تذكرت أنني أعيش في هذا الجحيم .
فقال ليخفف من انفعالها :
- يا عزيزتي ، إنها خلافات بين الحكومة والمعارضة ، ونحن لا دخل لنا بشيء من هذه القضية !
- ولكن الانفجارات يا فايز .. حين تجيء لا تفرق بين من له دخل ، ومن لا دخل له !
- أما أنا فلا دخل لي بأحد غيرك ..
وأضاف وهو يمد إليها يده بزهرة ياسمين :
- متى نحدد ميعاد الزفاف ؟
لكنها لم تكترث ، وبعد صمت متوتر عادت تقول :
- أرجوك .. فايز .. سافر ..
- وحدي ؟!
- أجل ، فالاعتقالات ناشطة هذه الأيام ، سافر أنت الآن، وسوف ألحق بك بعد الامتحانات ..
- يا وداد أرجوك اسمعيني ، أنا لا دخل لي بشيء مما تتخوفين ، أنا لم أفعل شيئاً يجبرني على السفر أو الهروب!
وبعد صمت قصير عاد يقول :
- ومن قال لك إنني ضد الحكومة ؟!
فتنهدت تنهيدة حيرى ، ولم تنبس، فعاد يقول :
- وداد ، أرجوك ، دعينا من الدنيا كلها ولنفكر بحالنا ، ما لنا وللآخرين ؟ نحن وبعدنا الطوفان .
فالتفتت إليه بنظرات مشفقة وقالت :
- إن تفكيري بحالنا هو الذي يجعلني أرتعد من الخوف، فأنا لم أعد أحتمل فكرة أن أفقدك ، أرجوك ، افهمني !
رشقت كلماتها روحه بعبق ندي ، وفتحت له أبواب العشق على مداها ، فأقبل عليها بفرحة طفولية وقال :
- إذن .. بالله عليك دعيني نتزوج ونرتاح !
لكنها ازدادت نزقاً وقالت بنبرة حاسمة :
- ليس في هذا الجحيم !
فأجابها متبرماً :
- وداد ، أنت تحملين الموضوع أكثر مما يحتمل ، وأنت تعرفين جيداً أني لا أطيق البعد عنك لحظة واحدة ، فكيف تتصورين أن أسافر وحدي وأدعك في هذا الجحيم كما تقولين ؟!
قالت :
- إنه ليس فراقاً ، إنه فقط استعداد للقائنا الدائم ، أليس هذا ما تتمناه ؟
ورفت أهدابها تداري سحابة من الدموع هطلت من عينيها ، وتابعت :
- تأكد يا فايز أن حبي لك هو الذي يدفعني لأطلب منك السفر ، وأنت تعرف تماماً كم هو صعب عليَّ أن أفارقك !
( أي نوع من العصير تريد حضرتك ) صحا من ذكرياته على صوت المضيفة وهي تطلب منه أن يختار ، فبادلها بابتسامتها ابتسامة شاردة ، وقال :
- برتقال ، لو سمحت .
وتناول العصير بغير شهية ، وأخرج من جيبه ورقة وقلماً وغمرته السعادة حين فكر أن يكتب رسالة يقول لها فيها ( أنا راجع إليك فوراً ) فيما عاودته الذكريات
- هل أنت سعيد ؟
- ألا يبدو عليَّ ؟
- فقط أريد أن أطمئن ؟
- سعيد جداً .. وأنتِ ؟
- أنا كلمة ( سعادة ) لا تكفي للتعبير عما أحس به يا فايز، لقد تغير كل شيء في حياتي منذ أن عرفتك ، وعندما أكون بقربك أرى الدنيا أحلى وأجمل ، وعندئذ أتمنى لو أبقى هكذا إلى الأبد ، غير أني خائفة !
- خائفة !؟
- أجل ، خائفة من أجلك ، خائفة عليك ، لم أعد أحتمل فكرة أن أفقدك !
( يا لطيف ! ) انتفض في مقعده على صوت المرأة في المقعد الذي أمامه مباشرة ، وداهمه مكبر الصوت عنيفاً آمراً :
- اربطوا الأحزمة !
وفي ثوان انقلب الجو داخل الطائرة رأساً على عقب ، وعاد الصوت بالأوامر :
- أطفئوا السجائر ، أرفعوا أيديكم فوق رؤوسكم ، لا تتحركوا فأنتم مراقبون .
وانقطع الصوت تاركاً هدير المحركات مثل موسيقى تصويرية في فيلم مرعب ، وخيم الصمت على الجميع، وتلفت حوله فرأى الأيدي مرفوعة في استسلام ، فيما عاد الصوت المرعب من جديد :
- نحن عائدون لنهبط في المطار ، وإذا استجابت الحكومة لمطالبنا أطلقنا سراحكم !
( يا إلهي ! نحن مخطوفون إذن !؟ ) هتف في سره ، وأحس بقلبه يجري بجنون ، وحين دوى صوت رصاصة في مكان ما داخل الطائرة أحس نفسه يغيب عن الدنيا، وحين استعاد وعيه فتح عينيه وراح يتلفت حوله لعل أحداً يسعفه فيشرح له ما الذي يجري ؟ وأطبقت الدنيا على صدره فأحس بالاختناق !
( ما دخلي أنا ؟! ) قال في نفسه غاضباً، وهمَّ أن يقف وينادي المختطفين أنه لا دخل له بشيء مما يجري، لكن قدميه لم تحملاه، ويبدو أن أحد المسلحين انتبه له وأوجس منه خيفة فأسرع إليه وأمره بالهدوء ، وإلا .. !
لكنه لم يهدأ، بل قام غاضباً يصرخ بصوته المبحوح :
- أنا لا دخل لي .. أنا لا دخل لي ..
لكن المسلح لم يمهله ، بل هوى بكعب المسدس على رأسه فخرَّ في مقعده بلا حراك !
وسوم: العدد649