برغوث

عصام الدين محمد أحمد

عدل وضع الوسادة، فرد بدنه فوق الفرش، يكبس عليه النعاس، يطارده ليغفو :

( أرض أقفاص البلح، يظلُم الليل، حفيف أوراق الشجر وهسيس الليل يعزفان نغماً مُرتجفاً، أدحض الرجفة بنقل الأقفاص إلى حافة الجسر، حركة مُريبة تعلو نبراتها وتخفت، الملثم يرفع الأقفاص فوق كتفي، أ أنشقت الأرض عنه أم أمطرته السماء ؟ !

يشغلني الأمر، يسقط قلبي أسفل قدمي، أسأل :

-من أنت ؟ ؟

أخشى ملامسته، يتهكم :

- ماذا ستستفيد ؟ ؟

فرغت من الأقفاص، طار في الهواء، ابتلعته الأرض، لا أدري ! ارتبكت، تتمايل الأغصان في صخب، أنازع الأرض المُتقلقلة، البلح الجايف يلتصق بقدمي، يثقل الحذاء، يأبى مُغادرة الأرض، يتمركزني الخوف، رنين شخاليل يبزُغ، يرتفع نبضي.. ينخفض، ينسحق، صوت الشخاليل يشُق الصمت، ها هو الحمار يعافر المطبات، تركن الكارو جوار الأقفاص، وفي لمح البصر أنزوي فوق العربة، وأدع ل " سيد " مهمة التحميل ) .

شيء ما ينغزه، يتجمر على جانبيه الأيمن والأيسر، جفل الرقاد، يتسلل الهواء البارد في شقوق الباب والشباك، تنتفض الإضاءة، يتناوم، القرية تغط في سكون مُريب، لا يقطعه سوى نهيق حُمار ورفسات أتان،  وأحياناً ينبح كلب تشاغيه خيالات الخيالات، تتعاقب اللسعات، يفز قائماً، يتأكد من سنكرة الباب، تخور جاموسة، يخلع هدومه، تموء قطة، يفلي فانلته، تبقعها الدماء ، يحُك جلده، يهرُش بعنف، يتسلخ، هرولة أقدام في الشارع، يرتدي ملابسه، ينفض ملاءة السرير، يكنس الأرض بالعرجون ، يتمركز السرير، يزيح الأغطية على الحافة، يسند رأسه بكف يده اليُمنى، يتقوقع، يستحلب بقايا حديثه مع الشيخ إبراهيم :

( أنت ولد طيب .

يسرد :

أبو الفتوح سامق كالنخيل، يتهادى سيره، يتنسم العليل، يلم الحشائش، يرفع حواف البطال المُنهارة، قرص الشمس ينحرف عن السماء، يلف في أرجاء الأرض المسجورة بالنخيل، يقف لينصُت، يقعد حاثاً القاع على البوح، يستأنس بالنجوم، حدد مصدر الخشولات، انقذف كالرياح، شبحان يتصارعان، يلهث دانياً، يتمرغان في الطين وعلى أشواك الجريد، يتوسطهما أثر استدارات عفية، نشبت مخالبهما جسده المبغوت، تراشقت دماؤه على كرانيف النخيل، وفي البكور شيعت القرية الذاهلة رفاته، ومن يومها يجوس الحقول ولم يسلم من يده أحد .)

مسلة تنغرس في عظامه، يقلب اللباس، شيء ما أسود يقفز، يلاحقه بيده، ينط، يتوه، يرتدي الجلباب، يخرُج إلى الشارع معه جركن كيروسين، يشعل جُثة النخلة الجافة، ينكفيء على النار، تتوهج، يبتعد، ألسنة النار تحاذى سقف الدار، يتثاقل الوقت، يتكرع السأم، يخدش جسده، يتمطى الفجر والنار لم تخمُد، يرُشها بالماء، يرجع إلى الغرفة، يضطجع على الفراش، أمتزج التعب والقلق، يداه تتحسس الجسد المُتأذي يُبلل السبابة والإبهام، يعثر على حشرة صغيرة، يقبَض عليها، يُمرسها، يسجيها على إبهام اليسرى، يقصعها، أرتاح كثيراً ، يجرب النوم، مسامه مُتقيحة، عنفت عمليات القبض والقصع، ومع إشراقة الشمس حمل الفراش، ألقاه في عرض الطريق، دلق عليه الكيروسين وأشعل الثقاب ، هرول إلى الغرفة، أشعل قوالح المدفأة الطينية، نثر البخور واللبان الدكر، أحتوى المدفأة بين قدميه، البخور يتصاعد، كتم جلبابه الأدخنة فاندفقت من فتحة الصدر، رأسه تنفث أطنان الأدخنة، ربما تختنق البراغيث ! .

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 651