هزيمة
اخترت العنوان قبل المتن، وأخشى أن تتعلق حروفي بمفهوم الهزيمة،لأول مرة فى حياتي،أتخلى عن متطلبات القص اللغوية والأسلوبية،أود الحديث على سجيتي،مضت حياتي كلها بكل عبلها وآثامها،عانيت ما عانى الآخرون،بررت فشلي بجميل العبارات على صفحات الجرائد،تخلصت من الاكتئاب بالإسقاط على مسيرة الغير،ولحظتها لبست ثيابًا مزركشة ومنفوشة،وبات التذكر حائط دفاعك الأول؛وظيفة باهتة،زوجة كمعظم الـنساء ترغب الستر برداء زوج،وأولاد وجودهم معاناة:
- آه .. آه .
اندمجت مع تلك المعطيات،لكي أمارسَ حياة الحيوان،لم تضفْ الصحف شيئًا،مجرد عويل ونواح،وفي لحظة مفاجئة جرجرني الأولاد خلفهم،لمحتهم فى ميدان الدقي يحثون الناس على الهتاف،بصراحة لاقى حماسهم الرضا،وكأنهم يفضحون سريرتي؛شاهدوا شريط ذكرياتي،أمشي فى ركابهم من شارع لآخر،أردد كلامهم كالبَبَّغَاء،ردوا الروح إلى جسدي،أصابتني الغازات بالإغماءات،داستني الأقدام الغليظة ،اقتحمتنى نظرات الاشمئزاز، دفأنى الموت أكثر من مرة،يشتد العزم،يترسخ إيماني،حينما فقدتني الحياة كنت كالأبله ، التائه،هامش كتاب أسود ، كلب أجرب ، تسوقني الأحداث إلى الدروب المقفرة، لم يؤنس وحشتي سوى كلمات مخطوطة بين دفتي كتاب، أستلهم منه البقاء في حياة الآخرين،أتنقل بين المرافئ والنساء وبراميل الخمر،أستهلكني في الحكايات،جابت أقدامي الميادين،أعوي ،ألهث،وفي المساء أقعد أمام التلفاز،أنصت إلى مصاطب الثرثرة، جعجعات وطنين،وفى الصباح تتلقفني الشوارع، انتصبت منصات البوح،لأول مرة يشكو الشعب للشعب،تتزيى الآلام بالآمال، تارة تجدني أقهقه،والأخرى أثرثر، والثالثة أهرب، والرابعة أصرخ،والخامسة أنخذل،مسحت بمؤخرتي جميع الأرصفة،هانت علي البلوى؛ فبلاوي الناس رهيبة ومؤذية،سمعت من مآسيهم ما يفوق الخيال،لن أشنـِّف أذنيك بالغرائب والطرائف،أحسست بالثبات ؛ طالما انطلقت الحناجر فالخلاص قادم،لم أقم بعد الموقف.
- أأنخدعت نفسي؟
تملكتني الفتونة،فأنا الفتى،والقدود كلها مراثي،بخنجر الصوت مزقتهم جميعًا؛فلان وعلان، جمعت أشلاءهما فى جوال،أفرغته فى طاحونة حجرية،ينز الدماء والقيح،لا أبالي.
- ربما أصنع كباب حلة من عجينتهما!
- ربما أتمتع بمضغهما!
رفعتهما فوق رماح الأولاد،لم آبه بالاستغاثات،هرولة،أوامر،هيئة أرجوازية،تلك المفردات مترسبة فى دورق التاريخ ، تغوص المدينة فى الوحل.
- لا أحد يعتقد فيما أقول.
- مجرد هواجس.
- وربما تكون هلاوس.
أرتشف مياه مثلجة،حتى لا أصاب بالتخمة،نتيجة هذه المائدة العامرة باللحوم،أصبحت الميادين شغلي.
- العسكر غير موجودين.
- أمن الدولة أكذوبة .
أصابني الملل من كثرة الترحال ،أفواه زاعقة وقدود مهدودة ،تكاثرت المظالم؛منها ما يستسيغه عقلي،ومنها الخيالي ، أو قل عجن الخيال المآسي بالبهارات الحريفة، تتباين أساليب الروايات ، تتوحد معاني الظلم.
- من المؤكد انحراف الكتابة من القص إلى الوعظ.
- أتذكر أننى آليت على نفسي التكلف،وليولد هذا النص بالطريقة التي تروق له.
- المهم دعك من الجنوح والشتات.
أتحرر من قيودي،أفلتت أقدامي من كوابحها، لا شيء يؤطرني، خلعت ثوب الأنثى مكسورة الجناح،تنتفخ أوداجي بالسهام،،صحيح سحقني الزمان،ولكنني الآن أسوس الزمان والمكان.
- تبا لأينشتين ونسبيته النظرية !
تذهب الأيام وضجيج الأنام،يلوكون لحوم القرابين والأضاحي ، يغيرون إحداثيات الهندسة،براءة الأطفال تسكب على عتبات الأطلال،أضيء شمعة،يطول الشارع،يتهوج الهواء،تنطفئ ،الشمع المنصهر يكوي أناملي،كالعادة أرجع إلى أوراقي ؛لا شيء فيها ذو بال ، مجرد شهادات وذكريات.
- أين الزلزلة؟
تتخيل-الآن- أنني سأغوص فى بحر الحكاية،أجمع اللآلي،لكي ينبهر العالم،وكأن الناس جميعًا ملائكة؛أناس تركلهم المطالب،وآخرون ينعمون بالرفاهية، فمن يقع تحت سنابك الحاجة،لا أمل له إلا بالموت،سواء كان مفعولًا به أو فاعلًا،والمرفهون من بروجهم العاجية يترقبون، وأنا- المتعوس - تفشل الكلمات بين يدي،نسيت القول:إنني أشد أنفاس المعسل بغيظ،حتى لا ينطفئ الفحم،تتنغم كركرات الشيشة،وكأنها تتجاذب مع أفكاري،ها هو رجل يتدثر ببزة فاخرة يحث الأولاد لسكنى الميادين ،وفى لمح البصر لا تجده،ربما يتجنب الفضيحة،وآخر فى جلباب أبيض يخطب،يدعو لتطبيق شرع الله،تفقد العقول البوصلة، تتصادم تيارات البحر،أترك الشيشة، ألحقت بجسدي العطب،وعليك البحث عن تسلية أخرى،تفش فيها غليلك،تشعر من خلالها برجولتك،وتعكس مدى اهتمامك بالهم العام.
- افصحْ عن وجه النفاق.
- دائرتك فارغة.
-ربما تكون فارغة حقيقة ! ،انصت إلى ما سأقول:
(يتشعلق شاب مَسْلُوع على شجرة، تلتصق بسور المدرسةالموجودة بشارع محمد محمود، يقذف العساكر المختبئين بالفصول بالطوب،يمارس ألعابًا بهلوانية،يلتقط الطوب من زملائه المتربصين بالشارع،وفى منتصف الصورة ،يحمل البعض جذع نخلة ضخمة، يدقون الباب،والمجندون يكومون المتاريس خلفه.)
- هأ .. هأ ..
- لماذا لم تذكرنا بقناص العيون؟
- من الخطأ اعتقادك أنني أنتخب ما يشبع نهمي!
- بل هى مجرد إيماءة.
- اسمع يا باشا ما تود :
(يقبض الضابط على بندقيته،يتبختر بين جنوده،يهتف الناس:
- الداخلية بلطجية.
ينسى دوره،يصوب طلقات الخرطوش تجاه الوجوه الزاعقة،تنثقب العيون،يشتد الوطيس،يشجعه عسكري - طال مكوثه- صارخًا.
- جدع يا باشا .)
- الآن - فقط - ندرك أن للأحداث تسلسلاَ يجب أن يورد.
- مواقف كثيرة حدثت ، ولم نفهم لماذا؟
- ألسن جمة تتحدث عن المؤامرات،تحيك من الخيوط المنثورة هنا وهناك خُطَّة،تغشى كل الأفئدة.
- لماذا تستنكر مثل هذه الفكرة ؟ ؛فمن يقبض على رقبة هذا الكون مجرد لص ،يحرك الدُمَى وفق النص المعد سلفـًا .
- أنرت المحكمة يا فيلسوف.
- لا أخفيك أنني لم أفهم شيئًا حتى الآن.
- بل قل: أفهم،ولكنني لن أقر ما فهمته.
لا أود لخبطة مخك،والسفر من مجهول إلى مجهول،وأطلب من زوجتي تبديل حجر المعسل المحترق بآخر مغمس بالحشيش، الدخان الأخضر العنبري يسيح بك فى ربوع المحروسة؛ مآذن ومصانع ومزارع تتماهى أمام ناظري،تتصايح الحشود، تنعق، تنبح، يتسرب الخدر إلى مفاصلي المفككة،أقلع القميص والبنطلون،أخلع المبسم من لاي الشيشة، أخطب في الجمهور.
- سمك ، لبن ، تمر هندي.
- عشم إبليس فى الجنة يا حثالة.
أقع فوق الشلتة،قريني مازال واقفـًا، يضحك بملئ شدقيه،يفحصني وكأنني دودة،يأبى الاعتراف بوجودي،فأنا فراغ،وربما يعتقد أنني العمل الردي،يشدني لأعلى،يطرحني ثانية، وهكذا دواليك،وكأنه فى ساحة رفع الأثقال.
ولسانه يلهج:
- قل ولا تقل.
يصيبه التعب،يجلس قبالتي،وأنفاسه تلهث.
- عمية و ولوها.
- ماذا أقول له واللب شارد؟
- اغرب بعيدًا حتى لا أحطمك.
- ألم أقل أن قريني مكفهر؟
أخيرًا شعر بالخزي ، فأوقد فحمًا، وبصم مائة حجر بالحشيش (الهبو)، وألقمني المبسم.
وسوم: العدد 656