البكاء على أطلال الأحلام الضائعة

المرأة المقهورة *   * اغتيال عذراء

* نزلت كلماتها كالصاعقة 

دخلت صابرة الغرفة وهي تمشي ببطء وبخطوات متثاقلة  لترى والدها في لحظاته الأخيرة وهو يحتضر يعاني سكرات الموت وحوله أولاده الأربعة الذكور وزوجاتهم وأولادهم خليط من البنين والبنات.

أرد احد الأبناء ان يلقن والده الشهادة ولكن دخول صابرة أصابهم بالذهول ، دخولها بهذا الشكل التي هي عليه أصابهم بصدمة غير متوقعة فقد كانت تبكي بصوت منخفض وبعصبية وتشنج والدموع تذرف من عينيها الحمراويتن ووجها المرسوم عليه بصمات الزمن بالتجاعيد وشعرها الأبيض الغير مرتب كأنها لم تمشطه وتدهنه منذ شهور طويلة. في لحظات الذهول والصمت استمرت في مشيتها البطيئة وسارحة بخيالها. لم تأبه بمن حولها و كأنها لم تراهم .

لم تجلس بجانب والدها المسجي على الفراش وإنما أمسكت بيده وظلت واقفة أمامه  قليلا  تم انحنت واقتربت برأسها من رأسه وهي شاخصة بعينيها في عينيه وقالت...

قبل ان تتفوه بكلمة عادت بها الذاكرة للخلف لتستعيد ذكريات أليمة لقرابة خمسون عام مضت  كأنها تشاهد شريط سينمائي يمر سريعا في مخيلتها .

لم يكن اسمها صابرة فاسمها الحقيقي جميلة وهي بالفعل كانت جميله وكان يطلق عليها في صغرها جميلة الجميلات أما الآن فهي

في الخمسين لكن مظهرها يوحي بأنها تعدت الثمانين لم تتزوج بسبب تعنت والدها وشروطه بالحسب والنسب والجاه والمال والمهر. حتى فاتها القطار ويئست من الزواج عاشت معانات قهر وحرمان وعذاب وسهر ووحده وأحلام مستحيلات طوال عشرات السنوات، هي من  أطلقت على نفسها صابرة  .

اختفى اسم جميلة في عالم النسيان كما اختفت أحلامها وتطلعاتها وأصبحت معروفة بصابرة  الكل يناديها بهذا الاسم .

في سنواتها الأولى القليلة عاشت في ربوع الأحلام وانتظار الفارس القادم بفرسه الأبيض ليردفها خلفه على حصانه و يأخذها من واقعها الى واقعه كأي بنت من البنات تحلم ببيت خاص بها وكيان مملكة خاصة بها هي الملكة تدير شئونها .

ألم تكن طفله ثم شابة ثم امرأة أليس من حقها ان تصبح زوجة وأم .

أعقبت تلك السنوات الأولى سنوات طويلة عجاف لياليها طويلة موحشة مخضبة بالدموع والنحيب والحسرة والندم . توقف شريط الذاكرة وعادة تنظر لوالدها وهي ممسكه بيده  وعينيها تقترب أكثر من وجهة 

ودموعها تتساقط على وجه أبيها فقالت بصوت متحشرج

قل.. يا أبي آمين 

قل.. يا أبي آمين

فقال الأب بصوت ضعيف آمين

فكررت القول قل يا أبي آمين

آمين  قالها الأب

ثم انفجرت بعصبية  هستيرية الله يحرمك من الجنة كما حرمتني من الزواج رددتها مرات وصوتها يرتفع تدريجيا  والجميع في ذهول من هول المشهد فقد نزلت كلماتها عليهم كالصاعقة. وهي مستمرة في القول حرمتني ان أكون زوجة وأم .

حرمتني ان اسمع أحلى كلمة  تتمناها أي امرأة حرمتني ان اسمع يا أمي

حرمتني الأمومة ان يكون لي أطفال أسعد بضحكاتهم وشقاوتهم وأتألم لأمراضهم . حرمتني ان تكون لي أسرة أطفال وزوج يخاصمني ويصالحني . يعاتبني ويرضيني يمازحني وأمازحه

تقدمت اليها زوجة اخيها الأوسط وهي صامته فالصمت خيم على الجميع فأخرجتها من الغرفة  وهي تواسيها     

المشهد كان مأساوي رهيب حتى أنهم لم ينتبهوا لرجل المريض الذي فارق الحياة

وأنا اكتب هذه القصة المأساوية لم استطع كبح مشاعري ولم استطع ان امسك قطرات دموعي وهي تتساقط على الحروف  . مأساة المرأة العربية  التي لا زالت تعيشها وتعانيها في كل بلاد العرب . فالعرب لم يستطيعوا ان يتخلصوا من نوازع  جاهليتهم الأولى  فلا زالت قابعة في أعماقهم .

ولا زالت حروب العرب الجاهلية القديمة البسوس و داحس والغبراء مستمرة  الى اليوم وإنما بثوب جديد وطراز جديد  وجهل جديد 

وسوم: العدد 658