السبع بنات
عاش الحاج محمود علي شاطئ فرع رشيد – من فروع النيل – فلاحا مجداً، وتاجراً حريصا، كثُر ماله واشتري أكثر من قطعة أرض، حتى أصبح يملك مئة وخمسين فداناً.
رزقه الله تعالي من زوجته زهرانة، عباس الولد الوحيد، وسبع بنات، وكان عباس هو قرة عين أبيه وأمه، أما السبع بنات فلا يعبأ بهن أحد.
ترك الحاج محمود البنات بلا تعليم، وأدخل عباس التعليم حتى وصل إلى الجامعة، وحصل علي شهادة جامعية، وزوجّه من أسرة كريمة، وكتب له الأرض كلها 150 فدانا، و زوج البنات السبع شباب من القرية، وبعد سنوات قليلة مات الحاج محمود دون أن يستمع لنصائح الناس الطيبين الذين رجوْه أن يترك للبنات شيئا من الأرض، لأن الميراث هو تقسيم الحق سبحانه وتعالي، لكنه لم يستمع إلا إلي صوت نفسه، وانتقل إلي ربه يحمل ثُقْل 150 فدانا.
نشأ عباس في رغد من العيش، وتزوج من نادية بنت أحد الأغنياء في القرية، حتى يضم ميراثه إلي ميراثها، وأنجب منها تامر وثلاث بنات، واهتم بتعليم تامر وأرسله إلي الخارج بعد الثانوية للحصول علي شهادة في الطب، وعندما عاد تامر بعد دراسته في أمريكا، فتح له مستشفي باسمه، ونقل ملكيتها له، ولم يبخل علي البنات الثلاث بالتعليم، وزوجهن، إلا أنه لم يرزق بحفيد أو حفيدة منهن، وكأن القدر يعد لشيء ما.
كتب عباس الأرض والمستشفي، وكل ما يملك لابنه تامر، فاشتكي البنات السبعة إلي وجهاء القرية من هذا الظلم البين، وذهب الوجهاء إليه، وفي صحبتهم الشيخ عطية إمام المسجد، وتحدثوا معه في هذا الشأن.
قالوا: يا حج عباس اعدل بين أولادك وأخواتك.
قال: كيف؟
قال الشيخ عطية: تطبق شرع الله.
ـ لقد كوَّن أبي هذه الأطيان بعرقه، وشقائه، وكان يعمل في الأرض بالنهار، ويتاجر بالليل، ولم يعرف طعم الراحة حتى مات.
وأنتم الآن تريدون مني أن أوزع مجهود أبي، ومجهودي، علي أزواج أخواتي وبناتي، والله لن يكون.
قال الشيخ عطية: يا عم الحاج إنك لن تأخذ شيئا وأنت مسافر إلي ربك، وستترك كل شيء
ومع ذلك ستحاسب علي كل شيء.
ـ إنه عرقي وعرق أبي، ولو كان الله يعلم أننا خالفناه، ما وسَّع علينا في الرزق!
قال أحد الجالسين: ربما أعطاك الله كثيراً لينظر ما أنت فاعل فيما أعطاك؟ ولقد سمعت جملة من أحد الناس، أن العبد إذا أغناه الله، ولم يراع حق الله في هذا الغني، فإن الله يزيده غني، لأنه يسمِّنه لكي يذبحه بعد ذلك.
قال عباس: أعوذ بالله منك، وعلي كل حال كل ذي نعمة محسود .
أحضرت الحاجة نادية الشاي، وقالت للحاضرين، أنا وزوجي حججنا إلي بيت الله أكثر من عشر مرات، وأدينا العمرة أكثر من عشرين مرة، ونعرف ربنا جيدا، ولسنا في حاجة إلي الوعظ .
قال الشيخ عطية: إن الحج لو كان خمسين مرة، والعمرة لو كانت كذلك، لا يغفران شيئا ولو قليلا من حقوق الآخرين، وكان يكفيكما الحج مع العمرة مرة واحدة، وتردُّون الحقوق إلى أصحابها.
قالت الحاجة نادية: ربُّنا عالم بِينَا و بيدينا أكثر وأكثر.
قال الشيخ عطية : لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون، وانصرف الجميع.
وبعد شهر من هذا التاريخ، عاد تامر من مشفاه الخاص بالقاهرة، وأخبر والده أنه تعَّرف علي زميلة له، ومال قلبه إليها، وهو يرغب في الزواج منها، ففرح عباس بذلك، وقال له: وماذا تريد يا دكتور؟
ـ أذهب لزيارة أهلها، ومعي أمي وأخواتي الثلاث.
ـ هذا واجب طبعا [ ادخلوا البيوت من أبوابها ] .
وفي اليوم التالي خرج د. تامر، ومعه أمه، وأخواته الثلاث، وانطلقت بهم السيارة، وكأنها هي الأخرى فرحة لفرح ركابها، وتعدى عداد السرعة المائة وعشرين كيلو متر، وفي لحظة خرجت سيارة من الطريق المجاور، فحاول تامر تفاديها بسرعة، ولم يدر أنه والجميع أصبحوا تحت عجلات سيارة نقل ثقيل [ تريلا ] فجعلتهم وسيارتهم هم والأرض سواء.
علِم الحاج عباس بما حدث، وضاع منه العمل والأمل، وجُمِع له تاريخه وتاريخ أبيه في لحظة فارقة، فأصيب بجلطة كبيرة في المخ، وحُمِل إلي المستشفي، ولم يحضر دفن أبنائه، ولقد حاول الناس فصل بعض قطع حديد السيارة عن لحم من كان فيها، فلم يستطيعوا إلي ذلك سبيلا.
ولم يعش الحاج عباس بعد الحادثة إلا ستة أشهر بعدها انتقل إلى جوار مولاه.
وهنا، عادت الأرض إلي أخواته السبع بنات، ولم يكن له وريثاً غيرهن، وابن عم كان متزوج بإحداهن.
وتمثل الناس في القرية قول الشاعر الشعبي ابن عاروس:
الدنيا تلاهي
حازوها المداهي
عبُّوها في المواهي
وفتوها كما هي.
وسوم: العدد 664