نوبة غرق
نزلت من القطار، نزحت سمعي من خطباء الذكريات، انهمرت مع سيل القادمين إلى الميدان، سياج من الحديد المُضفر يقطع طولياً شارع المحطة، المقاهي مرصوصة على الرصيف، المقاعد تشغى بالناس، كم تتوقف نفسي لمزاملتهم القعود ! الأمنية ساكنة الجوارح منذ سنوات، والطريق جد طويل، ست ساعات من الحيطة والحذر في الحوار المكرور، والمُكافأة – على الأقل – شاي المقهى ! وربما كان لك نصيب من سمر الوجوه المُرتابة... ولكن ....... لكن ماذا ؟ !
المشوار إلى أخميم لا يتعدى طوله ثلاث كيلومترات، لا مترو لا أتوبيس، بل غابات قصب وبيوت وأساطير وسفر طويل، فلأمتطيه بقدمي، مهلاً يا أرعن، الوقت مساء التعنتر ممجوج، ولكن في السير بريق لا يزحزحه الوجل، ما بال فؤادك ارتكس !! كأن الدهر نحت شجاعته، أكانت له شجاعة ؟؟ وكأن السوس نخره، صنع منه ( سرادة ) خرومها واسعة .
القدمان لا تعيران الحوار اهتماماً، تعطل العقل، وكأن حُكم لخصوم عتاة، يصعدني الكوبري، تبهرجه أضواء بالفوسفور بالغواية، تمرق السيارات كالومضات، أنظر من فوق الحافة الفضية، أمواج النهر المُنسابة تذكرني بالموت، الهواء يفح بالرطوبة، انتابني الهلع، تقرعني التخبُطات، تتهاوى الخطى والنفثات :
( كم جابت قدماي هذا الكوبري ؟ ! تارة للبحث عن دورية غير مقروءة وأخرى لإنهاك البدن، فالجيوب فارغة إلا من خمس سجائر نفرتيتي . )
أتوسط الكوبري، وقفت، أدلل رأسي مُتفرساً المياه، تأز الأسرار : تقول النائحة:
- يحجز هويس ( مطاي ) الجثة .
من سوهاج لأسيوط سيارة ومقهى ، وكذلك من أسيوط للمنيا، ومنها لمطاي ثلاث سيارات وثلاث مقاه، أركب الهويس، هدير المياه يربك الحواس . تمعن النظر في دوامة المياه حتى لا تُصاب بالدوار ؛هكذا قال ... من ... من ... لا أدري الآن .
وفي الدوار جنازة ونواح، وحُزن مؤجل .
لا شيء يشغلني سوى الواجب، ألتهم قنطرة الهويس. مئات المرات، طعمها القلق والتوتر والتشفي، الهوس يمتطي الأفئدة، والرجال يتفرشون الشاطيء، يشعلون الحطب، يزفرزون أدخنة الشيشة، فالليلة السابعة وجان البحور والليل المكلوم يقيدان الجثة)
أضاعف الجُهد واللهاث، خطوات وارتجافات، عرق وثلج، يعبُرني الكوبري، يتدرج ارتفاع الطريق، أبلغ قمة الجحريدة، نباح كلاب يصخُب تارة ويخفت الأخرى، ألفتت يميناً، جبل البيوت الطينية يخيفني، دروب وتلال وحواري، هيكل حنفية مُعطلة، زحاليق مياه ليلة الخميس، مازالت الرؤى تتأرجح :
( عود نأتي في القاع يلتف حول الجُثمان .هذا ما صرح به الصياد المأجور .
المشاعل تنبُت شيطانية، هرج ونفير، مراكب الصيد تتمركز حول شيء ما، رجال من كل صوب وحدب، الصياديون يزيحون الجُثة لتسكُن الهيش، تنغرس قدماي في الطين، يخلعني الحذاء، أميل لأمسكه، يتطين قميصي، وجهي، أخوض، أنغمس ، بمثابرة أجذب اللحم المنفوش، . إنه أبي .
قالت أمي مُجترة : ليس بابيك ) .
أرنو يساراً، ألمح مدينة الجُب. حفريات الشقف والآثار، تتكسر الهمة، فالطريق ينحدر .
وسوم: العدد 666