الإنسانة الهرّة !

فدوى محمد سالم جاموس

في جوف الصحراء ، وعلى أطراف المدينة التي أبت إلاّ أن يسجّل التاريخ فيها صفحات وصفحات ، في مكان صامت غريب بعيد .. تعانقت قسوة المناخ ، وقسوة الجلاّدين ! وفي محضن العذاب والرعب  تمّ استقبالي ، وياله من استقبال ! فقد صعد كلبان شرسان إلى السيارة التي أجلسوني فيها . تأكّدت من خلال نهش الكلبين لجسمي ، أنهما قد أمضيا فترة طويلة دون أن يتناولا طعاماً .. صحت ، وهما يداهمان جسدي في كل زاوية هربت إليها.. ملأت السيارة صراخاً وعويلاً ، مستغيثة ، مستجيرة .. ولا مجيب ..!

هربت مهرولة إلى خارج السيارة .. وهما مازالا ورائي  يتابعان تمزيق ملابسي وبعضاً من جسمي.. ألقيت نفسي خارجة من السيارة .. ليتمّ استقبالي ، من قِبل الزبانية المجرمين ..!

ضحكات وسخرية ، ولطم وسباب ، وشتائم وإهانات ، عدا الهروات التي نالت نصيبها من أطرافي وظهري . أمّا عيناي ، آه من عينيّ ! لطمني أحدهم عليهما لأغمضهما ، فاجتاحتهما غيمة بيضاء لفّت كياني بالظلام . وأُدخلت إلى حجرة وقفت فيها أمام رجل ضخم الجثّة ، مظلم الوجه .. رأيته من تلك الغباشة ، وسألني بغلظة وجلافة :

من أنت ؟ ما اسمك ؟

قلت في نفسي : كيف يُحضرونني إلى هنا ، بعد ملاحقة وتربّص ، ويسألني عن اسمي ؟

عاد يسألني بصراخ محموم : ما اسمك ؟

قلت : هدى أحمد .

ولم أدرِ أن ذكر اسمي سيفجّر ألغام السباب والشتائم والألفاظ النابية ، تلك التي دوّت في أرجاء نفسي ، وارتعدت لها مشاعري ، فنظرت مذهولة لا أدري ماذا ينتظرني !

قال ساخراً بعد أن سجّل اسمي وعمري ومكان إقامتي ،

وهو يهزّ رأسه : أنتِ .. انتظرناك طويلاً ياهانم ..! وعاد إلى صراخه المحموم .. خذها .. خذها من وجهي . حاولت أن أفتح فمي مراراً لأبدي وجهة نظري.. لم أستطع .. كرّرت المحاولة .. فتحت فمي مرّات عدّة  وأغلقته .. وقرّرت أخيراً أن أتكلّم ، وليكن ما يكون . صاح في وجهي والشرر يتطاير من عينيه: اخرجي يابنت ال..اخرجي. استدرت لأخرج .. قُبض عليّ بوحشية .. نظرت إليه خلسة دون أن أرفع رأسي .. رأيتُ شيطاناً مظلم الوجه أسود . وأُدخلت في ظلام نهارٍ أشدّ حلكة من ظلام الليل ؛ إذ ساقوني بكرباج من الكاوتشوك ، إلى سرداب مظلم .

وعلى يمين السرداب ، فُتح باب زنزانة ، باب حديدي مزّق صريره هدوء السرداب ، وكأنه يريد ان يعلن احتجاجه ورفضه لما يحدث ..!

وتعالت الأصوات لتكون رديفاً آخر في تعذيبي ، رأيت شباباً في مقتبل العمر ، والسياط تلهب أجسادهم العارية ، منهم على أعواد مصلوبون ، يتوجّعون كالذبائح .. وآخرون مثبتون على صفائح معدنيّة والنار تشوي جلودهم ، ورائحة أجسامهم تُزكم الأنوف . أمّا ذاك الشابّ ، ذو الشعر الأحمر واللحية الكثّة ، فقد انقضّ عليه ثلاثة من الجلاّدين وقادوه إلى الدولاب ، وأدخلوه فيه مطويّاً ، وجهه إلى ساقيه، ثمَّ ربطوا رجليه بعصا وانهالوا عليه بالكرابيج ، وهو يصيح ويستغيث ، وكلّما ازداد صياحه وصراخه ازداد ضربه وتعذيبه . ومازال صوته يعلو، واستغاثته تدوّي في نفسي ، وتسكن في خلدي .

صُعقت ، وانفطر قلبي ألماً عليهم .. تلفتّ حولي .. لماذا تعمّد إبطائي هنا ، وهو الذي يحرّكني بالركلات والهراوات ..!؟

لا أدري .. هل تعمّد هذا ، أم جاء في سياق وحشيته وغبائه..!؟

ولا أدري .. لماذا كنت أردّد في نفسي ، وتلحّ عليّ الأفكار: إنهم لن يقسوا عليّ ، فالفتيات أقلّ تحمّلاً من الشباب !  ثمَّ إنني لم أقم بعمل يسيء إلى غيري أو وطني ، ولم أكن أغادر البيت إلاّ إلى الجامعة ، فهي كل عالمي .

داهمني صوت غامض، صارخاً بي : أيّتها الحيوانة .. انقلعي .. أشيحي بوجهك !؟ وهاجمني بالكرباج على وجهي ، وصاحب صراخَه بصوته المدوي ، ألفاظ من السباب والشتائم ، وكفر بالله جلّت عظمته ، وبرسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام ..

ارتعدت ، انشطر كل شيء في داخلي .. تناثر .. ماعدا صدى صوته الذي تسرّب حتّى العظم ، فهزم كل شجاعتي وجرأتي دفعة واحدة ! هرولت والعرق ينزّ ، برغم برودة الطقس ، وعفونة المكان وقساوة اللحظة الرهيبة ، بينما الدهشة تئزّ في أضلاعي ..!

نزلت درجات مسودّة في ممرّ منخفض ، وأُدخلت إلى قبو نطقت جدرانه بالقسوة ، وغطّيت أرضيته بالظلم ، وفاحت منه رائحة الدم والصديد ، وانتشرت في أرجائه رائحة المشروبات الكحولية .. عدا رائحة العرق ، تنبعث من أجسامهم النتنة . ولم أشعر إلاّ بضربة قاسية على ظهري زلزلت كياني . شعرت كأنّ مياهاً ساخنة نزلت من رأسي إلى قدمي .. سحبت رجلي سحباً وبصعوبة ، فقذفني بركلة من رجله .. ابتلعني القبو ، واختطفتني ظلمته ..!

 أسأل نفسي: ماذا اقترفت !؟ لِمَ هذه القسوة والظلم !؟ ماذا يريدون منّي؟  أين كرامة الإنسان !؟

سُلبت حرّيتي حتّى في التعبير عن رأيي !

لست سوى وسيلة، تتيح لهم ممارسة فنونهم في التعذيب والظلم ، التي يعبّرون بها عن نفوسهم الحاقدة اللئيمة ، وكل ما عدا ذلك لا قيمة له ولا وجود ، لا رأي ، لا مشاعر..!

عند رأسي وقف حيوان بشكل رجل ! أمثال هؤلاء لا يعرفون الرجولة ، فمن يعرفها لا يضع نفسه في هذا الموقف ، وتأبى رجولته تعذيب فتاة بريئة ..!

حيوان .. ربّما أصله إنسان .. طويل .. مجدول الذراعين .. تباعد منكباه ، وترامى بينهما صدر مصفّح .. يملك قوّة حيوان مفترس حقاً.. وجهه مادّة مشتعلة ، التهب داخله ، فكانت عيناه جمرتين من جمراتها المتّقدة . نظراته كالسكاكين ، مزّقت أعماقي!

صاح بي صيحة ، حسبت معها قلبي سيسقط من علائقه .. حملق بي ووسّع دائرتَي عينيه ، بكل ما أوتي من شراسة .. عشت وحشة شراسته ، فأكلتني من الداخل ..!

التفّ حولي ثلاثة منهم ، وأحضر هؤلاء ( الجلاّدون ) أمراساً علّقت أطرافي بها إلى سلسلة واحدة ، وعلقوني بالأعلى ، وانهالوا عليّ ضرباً بالكرابيج . تجاوز عددها العشرة ، بعدها لم أعد أشعر بما يدور حولي ..أطرافي لم أعد أشعر بها .. رحت في غيبوبة .. صحوت على لطمات شوت صفحة وجهي .. أحسست بشيء ساخن يتدفّق على رقبتي .. سبح به عنقي .. لا بدّ أنه دم .. تحسّسته بلساني فتأكّدت أنه دم . تورّم وجهي ، وانتفخ كرغيف خبز، بل تورّم جسمي كلّه ..!

أغمضت عينيّ .. تعبت .. هربت ممّا حولي إلى داخلي .. هربت من عمود الدخان المظلم الذي انتصب فوقي .. هربت من الخوف الذي شلّ إحساسي وخدّر عقلي .. تقوقعت .. انهزمت إلى أعمق أعماقي .. عشت في عالم التسبيح والدعاء ، وصدى كلماته يطرق سمعي.. يخترق دائرة الهرب إلى داخلي ، ويردّد مراراً .. يا ابنة الكلب ، لماذا كنتنّ تجتمعن ؟ من هنَّ صديقاتك ؟ ولماذا تكتبين على كراساتك باللغة الأجنبيّة ؟ إنها شيفرة بينكنّ ، أليس كذلك ؟ لقد كشفناكنّ .. اعترفي أحسن لك ..! لم يدرْ في خلدي أن محاضرات اللغة الإنجليزيّة ، ستصبح شيفرة عند هؤلاء الجهلة الأغبياء ! ويعود إلى صراخه المحموم زاجراً متوعّداً : أجيبي ، تكلّمي . سألت نفسي : بمَ أجيب ؟ ماذا يريدون ؟ لم أفعل شيئاً ، في الخفاء أو العلن ، ألام عليه ..!

بَعدَ الجلاّد عن عيني .. نظرت إلى أطرافي .. تحسّست جلدي : لقد تورّم .. ظهر الازرقاق عليه . تمزقّت شفتي .. حرّكت لساني لشعوري بالدم يسيل من أنفي .. دم .. دم .. نعم دم ، ماذا يعني هذا !؟ لم أعد أكترث ! كانت رؤية الدم ، من قبل ، تثيرني .. رؤية الدم ، الآن ، أهون شيء عندي ! جفّ حلقي .. صار لساني كقطعة خشب في فمي ، تعبت .. بُحَّ صوتي وخَفَت . طلبت الماء مشيرة إليه .. عاد إلى الضرب والتعذيب .. خارت قواي .. لم أعد أحتمل .

يبدو أن ذاك التعب ظهر عليّ جليّاً .. تهامسوا فيما بينهم ، وما هي إلاّ هنيهة ، حتى فُكت السلسلة والأمراس ، فوقعت على الأرض كالخرقة البالية ..!

أشار أحدهم إلى مكان الماء ، وطلب منّي الوقوف .. لم استطع حراكاً .. نظرت إلى ذاك الركن .. رأيت الماء من الضوء المنبعث من الأعلى . ظلام مضيء .. أشياء غامضة مخيفة ، مبعثرة هنا وهناك .. ظلام وغموض يلفّان المكان ..!

تقدّم أحدهم وحرّك لي الماء برجله ، فصار موحلاً ، خالني بهيمة .. ياسبحان الله ، ما هذا اللؤم ! حبوت على أطرافي كطفل صغير .. حاولت قبلها أن أقف ، فوقعت مرّات عدّة .. بكيت ، وأحرقت الدموع وجنتيّ ، فتعالت ضحكات المجرمين الجلاّدين .. تابعت رحلتي الشاقة ، وقد فُرشت الأرض بالحصى والزجاج المحطّم ، ليزيد ذلك من تعذيبي .. بعد جهد وصلت الماء .. غرفت بيدي غرفة ماء ..حاولت أن أشرب .. لم أقوَ.. ساعداي .. آه من ساعديّ ، لم تحملاني . ركلني المجرم برجله إلى طرف الحوض.. وقعت على طرفه.. تمزقت شفتي من الطرف الآخر .. سال الدم على وجهي خريطة عذابي .. دوّن أسطراً من شقائي.. وتناثر الماء .. بضع نقاط دخلت فمي.. تذوّقت الدم .. استطعمت به أكثر من الماء ! لا.. لا..لا أريد أن أشرب .. سيشرب من جهنّم ، إن شاء الله ..!

عاد إلى الركل من جديد ، فكنت مثل كرة قدم بين رجليه .. ما أحقرهم من بشر ! ..صحت مستغيثة : ربّاه ..ربّاه .. ارحموني ؟ ماذا فعلت ؟ ألا من معتصم ! ؟ لا ، بل سبّ وشتم .. إنهم لا يجيدون غير ذلك ..!

وبركلة جديدة عدت إلى موقعي القديم . لقد رسَمتْ معالمَه بدقة ، تلك الدماء التي توشّحت بها قبل رحلة العذاب ..أقصد : رحلة الشرب الشاقّة !  ركلة بدّدت كياني ، فتناثر مابقي من قدراتي .. لملمت نفسي .. عدت إلى موقع حدّده لي من جديد ، مشيراً إليه ، وكؤوس الخمر في أيديهم يحتسونها. عانقتُ من بعيد ، بناظري ، حوض الماء ، والدماء تعانق الجروح ، والفكر يعانق التهمة الضائعة .. تهمة لم ارتكبها ، ولوكنت قد فعلتها ، لارتاحت نفسي المعذّبة !

كانت ليلة شديدة قاسية ، ذقت فيها من العذاب ألواناً ، ومن الشتم والإهانات مالم أسمع به ، أو يخطر لي على بال ..!

أصناف من البشر لا توصف ، بل حرام أن تذكر في عداد البشر! تعالت ضحكاتهم .. عربدوا .. راحوا يهزؤون .. انكمشت على نفسي .. ضممت يديّ إلى ركبتيّ .. أحسست بأمر ما ، دار بينهم ، عزموا عليه..اقتربوا منّي.. حاول احدهم نزع ملابسي .. التففت حول نفسي أكثر.. كرّر ذلك..  اجتمع الثلاثة على تمزيق ثيابي .. مزّقوها . يالله .. !؟ تمسكت ببقاياها .. ماذا أفعل !؟ تعالت أصواتهم .. ثارت ثائرتهم .. اطفأوا بقايا سجائرهم في الأماكن المتكشفة .. صحت بأقصى طاقتي .. كان العذاب فوق الاحتمال .. زاد طوفان العذاب .. آلام العطش والجوع تفري أمعائي ، وآلام الجروح تمزقني ..

عمد أحدهم إلى كيّ جلدي بمكواة كهربائية ، وهو يقول ساخراً : سأزيل مكان السجائر بالمكواة . وأنا أصيح وأستغيث ..

وكلّما علا صياحي زاد تعذيبي . جروح وحروق في جسدي ، وجروح وحروق في نفسي .. وجروح وحروق تائهه لا أعرف فيها سبباً لعذابي وظلمي . إن تمزيق الأبدان ، ولهيب السياط ، والتجويع والعطش ، أهون ألف مرّة ، ولا تساوي شيئاً إزاء ما طلبوه منّي ! هاهم أولاء يضحكون .. يعربدون : انزعي ملابسك  هيّا ، يا بنت ال.. ياحقيرة .. يا.. أما زلت مصرّة على الرفض!؟ انزعيها .. وإلاّ سنريك كيف سننزعها نحن ..هيّا .. هيّا .. ليس لدينا وقت ..!

سنقوم بدورنا نحن الثلاثة .. دعينا ننسى ما تكبدنا من متاعب في ترويضك .. سنجعل منك مواطنة صالحة .. هناك الكثيرون في هذا البلد يحتاجون تربية .. هذه البلاد ستبنيها الشبيبة الصالحة .. وأنتنّ ستروّضن لتصبحن مواطنات صالحات ..!

اقترب أحدهم كحيوان مفترس ، وكأن الخمرة فعلت فعلها ، هاهو ذا يتقدّم .. صمّمت بيني وبين نفسي على أن أقتله .. سأقتله لا محالة .. سأفقأ عينيه بأصابعي ، وأنشب أظافري لأخنقه ..

سأعتصر روحه ، وليقتلوني .. سأنال الشهادة على يد الثعالب الماكرة .. المنيّة ولا الدنيّة .. شرفي حياتي .. ليكن ما يكون ! لملمت شجاعتي المبعثرة ، وأنا أدعو الله متضرّعة وجلة : إلهي أنت قلت ، وقولك الحقّ : ( ادعوني أستجب لكم } ..وها أنا ذي ، يا ألله ، أدعوك أن تنقذني وترحمني من هؤلاء الفجرة . إلهي .. جعلتك في نحورهم ، وأعوذ بك من شرورهم .. وعدتنا ووعدك حقّ . استرسلت في الدعاء ..

تركني الوحش ليتناول قطعة خشب ، كانت في الزاوية البعيدة في القبو.. لم يخطر ببالي أنها ستكون جزءاً منّي ..

ربطوني .. وثبّتوها على أطرافي .. ووجّهوا صدمات كهربائية إلى قدميّ ، واماكن أخرى .. رحت في غيبوبة أو شبه غيبوبة .. لقد شلّت الكهرباء إحساسي ، وخدّرت عقلي ..

انطلقت مسافرة عبر الأيام ، لاحقت خيالاً غامت معالمه في ذاكرتي، وسكنت أبعاده في وجودي، وزغرد الخلاص في داخلي!  انطلقت بفكري إلى الشوارع مشرّدة ، لا أعرف أين أذهب .. قرّرت ان أهرب بجلدي ، من الظلمة والعذاب .. ركضت من مكان إلى آخر، وحين تعبت من الهرب ، تماوجت في خاطري ظلال تلك المحاكمة ، التي تَرافع فيها أطفال الشارع ، عندما جلسوا يتقاذفون الهرّة المسكينة ، وهي تملأ الشارع مواءً ، تصيح  وتستغيث ..!

وبالأدلّة القطعية ، قرّر الأطفال محاكمتها ، بعد تبيان الحوادث التي أُدينت من خلالها ، وحضور الشهود ! فقد شربت الحليب في بيت الطفل الأول .. وأكلت اللحم من يد الطفل الثاني ، وأيقظت أخاه الصغير ، إثر اجتماع جرى بينها وبين صديقاتها الهرر..!

وبعد البحث والمداولة ، بين الأطفال ، اتّخذوا قراراً وجاهيّاً ، غير قابل للطعن ، بإدانتها .. صاح أحدهم : صحيح أن الهرر تتشابه ، ولكن هذه الهرّة اللعينة أعرفها من موائها ولونها . وكذلك أكّد الثاني صحة التهمة ، من شكل ذيلها الطويل ! ونُصبت لها محكمة ميدانية ، فعُلقت من أرجلها وتناوبوا على ضربها، وهي تصيح ، وتحاول قطع الخيط الذي رُبطت به .  واستجابة لتوسّلاتها وموائها ، خفّت حدّة التعذيب ..!

بقي حكما ( اللحمة والإزعاج ) ، والهرّة المسكينة تتلوّى بين أيديهم . وبعد الدراسة والبحث الطويل ، لتقريرشكل الحكم ،

رُبطت بقطعة خشبية بشكل عرضي ، وتمّ تثبيتها عليها ، وصاحوا : دعونا نؤدّبها ، ونؤدّب أبناء جنسها ، فتكون عبرة لغيرها ، فتصبح الأجيال كلها مهذبة .. نرتاح من الهرر وموائها ، فلا تتطفّل على بيوتنا وأسماعنا بإزعاجاتها وقرفها ..!

وعن بُعد ، شاهد الحاجّ محمود الهرّة المعذّبة ، وهي على تلك الصورة ، وقد سمع صياحها وصراخها . ذلك الرجل الصالح ، الذي عرفه أهل الحيّ بوقاره ودماثته.. بتقواه وسماحة نفسه.. بكرم طبعه وطلعته البهية ! اقترب بجلبابه الأبيض ، يشعّ طهراً ونقاءً ، وعلى رأسه طاقيته البيضاء .  وجهه أسمر وسيم ، ينطق بالسكينة والاطمئنان ، يمدّ يد العون للغريب والقريب ، وبابتسامة عذبة لا تفارق وجهه ، جذب إليه قلوب من حوله . حتّى الأطفال يمازحهم ويطيّب خاطرهم ، ويسأل عن أحوالهم . فالجميع يحبّونه ويجلّونه . صاح بالأطفال ، فلم يعيروه اهتماماً ، وتشاغلوا عنه . كرّر ذلك مرّات ومرّات .. اقترب منهم .. زجرهم على فعلتهم الشنعاء .. هربوا .. تفرّقوا متوجّسين ، وعلى بُعد ، وقف كل منهم يتربّص ، ويراقب الحاجّ محمود . حوقل كثيراً ، وفكّ قيد الهرّة المسكينة، فوقعت كالخرقة البالية ، تتلوّى من الألم والعذاب!  مسح جلدها مرّات بحنان ، وقام بإحضار الماء والطعام ، وأمضى ساعة راثياً لحالها ، مشفقاً عليها ، حزيناً لما ألمّ بها !

لقد وجَدت هذه الهرّة المسكينة ، من ينقذها ويرحم ضعفها !

صحت بأعلى صوتي : ياحاج محمود ، ياحاج محمود .. وكأن انقطاع الكهرباء عنّي أعادني إلى الواقع .. عدت من رحلتي عبر الذاكرة ، إلى مأساتي ..

ذِكر الحاج محمود جذبهم إليّ مجدّداً .. التفّوا حولي ، فكانوا كمن وجد ضالّته .. أوقفوا التعذيب .. صاح أحدهم : اعترفتْ ، اعترفتّ ، أخيراً ، بنت ال..

وعادوا إلى توجيه الأسئلة .. مزّقوا بضجيج أسئلتهم سمعي ، كعواء في بئر.. اعترفي : أين يسكن ؟ وماذا يعمل ؟ ما علاقتك به ؟ ماذا تخطّطون ؟

أُرسلت الدوريات لتتبّع آثار الحاج محمود.. محلّ سكنه .. مكان عمله .. لا فائدة .. لم يُعثر عليه ، فقد هاجر منذ سنوات .. لم يطب له العيش هنا ، فترك بيته مغلقاً وسافر.. لكنه سيعود

 قريباً .. هكذا أخبرهم .. سيعود !

وسوم: العدد 666