دار الحبيب الأول
مررت على دار الحبيب ، فحمحمت * جوادي ؛ فهل تشجي الجواد المعاهد ؟!
استرجع ناصر بيت المتنبي السابق حين مر على دارٍ بدراجته النارية مردفا زوجته وراءه مجانبة . ظهرت طريقة الركوب هذه في غزة إثر أزمة وقود طاحنة في 2007 . تردد كثيرون في اتخاذها بداية ، ونهايةً غلبت الأزمة الطاغية ترددهم . توقف أمام الدار متظاهرا بحل مشكلة في الدراجة ، ووقفت الزوجة بعباءتها وحجابها قربه تستفسره عن صنف المشكلة ، وهل هي صعبة ، فطمأنها بأنها عادية صغيرة ، إنما الاحتياط حكمة وواجب . يسترق النظر إلى باب الدار بين دقيقة وأخرى . تجيش في صدره ذكريات حزينة يحاول مواراتها عن ضميره حتى لا يشعر بأنه يخون زوجته عاطفيا . الدار كبيرة من طابقين ، وعلقت في واجهة الطابق الثاني لوحة " هذا من فضل ربي " . في صدر الدار زيتونة وتينة وتوتة تعانقت أغصانا وخصبت اخضرارا . كان مخططا أن يكون هو صاحب الدار وساكنها ، وأن تكون مزيونة التي بنتها زوجته . ولما وصل في خواطره " زوجته " خجل من نفسه ، ورفع رأسه إلى زوجته كأنه يعتذر منها ، ويقول لها إنه يحبها ، وإنها رائعة وأجمل من مزيونة ، لكن حزنه على مزيونة غائر في قرارة قلبه مشعشعا بومضات حب تأبى أن تخبو .
***
تحابا واتفقا على الزواج . هي مدرسة تكبره بثلاثة أعوام ، وهو سباك . تأهل للسباكة واحترفها بعد أن أعياه نيل وظيفة مدرس لغة عربية وفق تخصصه الجامعي . ومازح نفسه : سأشتغل في سباكة الحمامات والمطابخ بدل الاشتغال في سبك الجمل ، وفطن إلى قضية لغوية : لم لا يستعملون المصدر" سباكة " الدال على الصنعة في الأدب والبلاغة، ويؤثرون عليه المصدر " سبك" ؟! ألم يصنف العرب الشعر والنثر صناعتين ؟! وورثت مزيونة عن والدها نصف دونم ومبلغا طيبا من المال ، أضافت إليه مدخراتها ، وبنت البيت الذي يتظاهر أمامه بمعالجة عطل في دراجته ، واشترطت كتابته باسمها ، فقال لها هادئا باسما : بيتك ، فليكن باسمك ! من ميتة من حياة ...
واتسعت ابتسامته ، وهم بأن يضيف : ...
لكنه سكت ، فقالت مزيونة مرحة : أكمل ! لا تخف !
فضحك وقال : من زواج !
وفاجأه احمرار واستياء في وجهها ، وندم على ما قال ، واستغرب حساسيتها إزاء زواجه عليها حتى بالمزاح والخيال . كان اتفاقهما على الزواج سرا لا تعلمه سوى أمها وأختها الوحيدة التي تصغرها بخمسة أعوام ، وبدا كل ما يلامس خطواته سلسا ميسرا يبشر بقربه . وفي أول نهار يوم ، صعقته رسالة على هاتفه : " استشهدت مزيونة في المدرسة " ، فغادر مسرعا ذاهلا المطبخ الذي كان يصلح حنفيته ، وعلم في الطريق من قريب له أنها استشهدت برصاصة أطلقت من المستوطنة القريبة من المدرسة .
فقتل حلم زواجهما ، وبيع البيت الذي أضاف إليه شاريه طابقا ثانيا .
***
قال لزوجته مداريا ما في وجهه من وجوم وحزن : اركبي !
وانطلق ، فضربته ضربة خفيفة على ظهره ، ونهته : لا تسرع !
أحس من خفة ضربتها ما في قلبها من حنان عليه ، وخجل مما في نفسه من حب وحنين لمزيونة ، وأعرض عن طيف بيت أبي تمام الذي بدأ يخايله : نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *
ما الحب إلا للحبيب الأول .
وسوم: العدد 679