من مذكرات نباتي ٢، فليّح ابن الجولان

هو يعرف كيف يأكل الكتف و كيف يوظف الحرب لصالحه , فمنذ أن وجد نفسه مطروداً من وظيفته ونازحاً بلا مأوى أو عمل تفتحت عبقريته وبحثه الدؤوب عن ثقافة مضادة , فهو لا يتعب من توصيف المجتمع بحثاً عن حركة ثقافية معارضة للقيم الثقافية والجمالية والأخلاقية السائدة في قريتي , لكن منذ انهيار سعر الصرف وقفز الدولار ومعه السلع لاسعار جنونية , لاذ بالصمت هو وحركته تلك وأخذ يبحث بشهية مفرطة عن عمل مثله مثل سائر المعيلين في قرى الجولان .

 فالناس هنا لم تعد تحبه ربما لأنه من المستحيل أن ينقرض بفعل ثورة أو حرب أهلية أو حتى نزاع عشائري طويل , فـهو مدرك أن أي عشيرة لكي تبقى لأكثر من ربع قرن يجب أن يكون معدل انجاب الأطفال في كل عائلة منها بمقدار 2,11 , ومعدل أقل من هذا سيؤدي الى إندثار هذه العائلة وهذه العشيرة .

ولا أعتقد أن "فليّح" وبعشيرته الممتدة بأذرع أخطبوطية لأكثر من ستين جيلاً يخشى انقراض ثقافته وعشيرته ,  فهو قادر على الصمود لأكثر من عشر قرون بأريحية , فهذه الحرب لم تقطع نسله كغيره من السوريين , فهو قادر على الانجاب وقادر أن يذكر لك اسم جده التاسع في تسع ثوان. وكل هذا سببٌ كافٍ ليخلق له الاعداء .

فعلى سبيل الحسد زارني اليوم بيّاع الديوك , وقد ارتدى شماخه الى وراء كذيل حصان كاشفاً عن صلعته المغمورة بالعرق والمسفوعة بتأثير الشمس مثل ديك بلدي أصيل , كما كانت تبرز اثناء الحديث بين حين واخر لحيته المتوسطة تحت أسنان مهترئة قبل أن يجمّع رجليه تحته دون أن يلقي التحية حتى , ثم أخذ يرمق فأسي وأنا أزرع البصل وبعضاً من الثوم متحدثاً باعجاب عن عبقرية 'فليّح' . وكمن يحدث نفسه راح يطحن فكيه بالكلام :

- يمتلك تسعة حمير و يحببهن كحب ابناءه , و يومية كل حمار عنده ألف ليرة في الوادي , ألف ليرة !! يعني 9 × 1000=  تسعة الاف باليوم . أكثر من يومية قائد في الجيش الحر يارجل ..

ثم ضاقت فرجتي عينيه وأخذ يجيل بناظريه مساكب البصل التي زرعتها وكأنه يتمنى في سره أن يكون حماراً عند فليّح. و بين حين وآخر يمط طرف فمه بابتسامة زائفة , يغمزني ويومئ برأسه إلي بأن أكمل عملي وألا أعطي بالاً لحديثه لكنه يكمل بغيض ولا يقدر إلا أن ينط بقربي و يمضي في حديثه  :

- بدأت اقتنع بكلامك يا معلم و بأن العباقرة هم أشخاص معاقين  .. أنظر الى وجهي .. إلى قامتي .. إلى وسامتي فإلى متى سأبقى أبيع الديوك , ربما لو اني مثل هذا المنغولي "فليّح" لكنت عبقرياً وكانت حالتي افضل.

سكت قليلاً ثم سأل ببلاهة :

- هل تعرف في التاريخ عباقرة تشبهني ?

لم أفهم ما يقصده , ولا أذكر أن نظرية «كل عبقري معاق - فليّح عبقري - إذاً فليّح معاق » هي لي , لكن ما أعرفه وبدون مراء أن النميمة في هذه القرية هي غذاء الروح , وبما أني الفهمان الوحيد في العشيرة ألقيت بالشوكة والفأس وتربعت فوق جزمتي الغارقة في الطين وطفقت اشرح له بنميمة و بفلسفة جولانية خانقة ومملة وجهة نظري وكيف أن غالب العباقرة عبر التاريخ هم معاقين فعلاً وذوي احتياجات خاصة وان ولادتهم كانت غير سوية , وكيف أن فولتير ولد نصف ميت ونيوتن ولد قبل أوانه , وكينز وهوغو وتشرشل وديكارت كانوا بصحة سريعة العطب , كما كان الكسندر الكبير وفيثاغورث ونيتشه وغيرهم كثر يعانون من نوبات صرع رهيبة. في حين امتلك كثيرون عاهات مختلفة مثل الطرش لدى بيتهوفن واديسون , ووجه بائس مثل غوريلا شمطاء لـ تلستوي ورأساً ضخماً لـ ميرابو وتوماس هاردي  ..

 هي المرة الاولى التي لم يقاطعني فيها رجل في عشيرة , فهو في العادة لا يتعب من التردد والحديث معي , فهو يحب الاكثار من استدراكاته واستثنائاته فقط . ورغم تعارضنا الفيزيولجي فقد ضاقت فرجتي عينيه وهو يصيخ بسمعه إليّ باهتمام ثم طال الحديث ولم يقصر , وتعارضنا حد العصبية عندما لم يعجبه قولي أن فليّح  شخص عادي لكنه غيّر أصوله الانتاجية عندما تبدلت قوانين العرض والطلب في البلاد ولهذا وبدل أن يعتمد على أولاده أخذ يتاجر بحميره .

لكن و لمعرفتي فرط عصبيته اتفقنا في النهاية بعد شدّ وحذب :

أن فليّح إبن عشيرتي الغالية مثل سائر ابناء الجولان بعد الثورة .. مخلوق حساس و بريء لوثته الحرب ببندقية وبلحية مستعارة , يربي سكسوكة في المناسبات وله حمالات للبنطلون ..

تمت

وسوم: العدد 679