رصاصة

د. أحمد محمد كنعان

مضى عام كامل على اندلاع الثورة الشعبية في الشام ضد نظام " البعث"، وطوال هذا العام لم أغادر المستشفى إلا نادراً ، فأنا الجرّاح الوحيد الذي بقي من جراحي المستشفى بعد ان اضطر الزملاء لمغادرة البلد لأسباب مختلفة، ولا أخفي أنني مثلهم فكرت مرات عديدة أن أغادر البلد كما فعلوا لولا أني رأيت مغادرتي تعني إغلاق قسم العمليات وترك المصابين يموتون يومياً بالعشرات بعد أن اتسعت حوادث إطلاق النار من قبل أجهزة الأمن على المتظاهرين الذين يئسوا من التظاهر السلمي ، وبدؤوا يستخدمون السلاح دفاعاً عن أنفسهم وعن أهليهم في مواجهة رصاص رجال الأمن .

ليلة أمس فرغت من إجراء العملية السابعة في وقت متأخر من الليل، فغادرت قاعة العمليات وأنا على وشك الانهيار من شدة التعب، صعدت إلى غرفتي في الطابق العلوي من المستشفى، ولم  أكد أخلع لباس العمليات حتى سمعت جرس هاتفي يرنّ، رفعت السماعة فإذا به مساعدي زهير الطالب في كلية الطب الذي تبرع لمساعدتنا في هذه الظروف بعد رحيل الجراحين، سألته عما يريد فطلب مني العودة فوراً الى قاعة العمليات لوجود حالة طلق ناري في الصدر، فتوقفت عن خلع لباس العمليات، وتناولت على عجل قطعتين من البسكويت مع كأس من الماء، لعلها تساعدني على الصمود وتدفع عني ألم الجوع، بعد ان فاتني العشاء في مطعم المستشفى لتأخري في العمليات !!

 توجهت الى غرفة العمليات فوجدت المصاب على طاولة العمليات وقد جهزه للعملبات زهير وبقية الفنيين والممرضات، وقبل أن أشرع بالجراحة اطلعت على ملف المصاب فاكتشفت أنه ضابط عسكري برتبة عميد، فحمدت الله أنني وصلت في الوقت المناسب، قبل أن يلفظ أنفاسه كما حصل قبل أسبوعين عندما توفي الملازم "سلمان" على طاولة العمليات قبل أن نستطيع عمل شيء لإنقاذه مما أدخلنا في سين وجيم وتحقيق وبهدلة مازالت تلاحقنا حتى الآن ، ونظرت في الصور الشعاعية، فوجدت الرصاصة مستقرة في الصدر قريباً من القلب، وحرصاً مني على عدم تكرار ما حصل في حالة الملازم سلمان شرعت على الفور في إجراء العملية واستخرجت الرصاصة وطلبت من مساعدي زهير الاحتفاظ بها لأهداف التحقيق الذي يجرى عادة في مثل هذه الحوادث !!!

وشكرت فريقي المساعد في العمليات وغادرت إلى غرفتي في الطابق العلوي حيث ارتميت على الفور فوق سريري من شدة التعب، والظاهر أنني استغرقت في النوم مباشرة، فقد صحوت على صوت زهير يطلب مني النهوض لأن الساعة قد تجاوزت الثامنة صباحاً، وحان الوقت لمرورنا الصباحي على المرضى، فتحاملت على نفسي وقمت فخلعت لباس العمليات الذي اكتشفت أنني نمت به من شدة تعبي ، وارتديت معطفي الأبيض وهبطت إلى عنبر المرضى، وما إن وصلت نقطة التمريض حتى رأيت رجلاً يقوم عن مقعده ويقبل نحوي باشّاً ، مد يده فصافحني بحرارة ، ثم طوقني وهو يمطرني بكلمات الشكر والامتنان للعملية التي أجريتها له، فعرفني بنفسه أنه العميد "باسل" الذي أجريت له العملية في الليلة الفائتة، وفاجأني فطلب مني فرصة للحديث على انفراد، فاعتذرت بأن عليّ واجبات تجاه المرضى، فقاطعني قائلاً :

- وأنا واحد من مرضاك ، لي حصة من وقتك، أليس كذلك ؟!

قلت وأنا أطلب منه الجلوس :

- أنا رهن طلبك  بعد المرور على مرضاي ، لكن الآن أرجو أن تنام في سريرك حرصاً على نفسك !! 

قال :

- أنا بألف خير، لكني أريد أن أشكرك على ما فعلته من أجلي

قلت :

- لا عليك فأنا لم أفعل سوى الواجب

قال :

- لا،  بل فعلت أكثر من الواجب بكثير، لكن ليس هذا ما أود أن أكلمك فيه ؟! 

قلت :

- حاضر، لكن أرجوك دعني أطمئن على المرضى أولاً ثم أعود إليك ، هل تسمح ؟!

هزّ رأسه وعاد إلى مقعده، وذهبت أنا أتفقد مرضاي ، ثم عدت إليه فقام يقابلني بحفاوة، ويصافحني بحرارة ويكرر شكري، فمشيت به إلى المكتب المجاور لأستمع ما لديه، وفور ان جلسنا بدأ الحديث، قائلاً :

- يا حكيم، أرجو أن تسمح لي بأخذ الرصاصة التي استخرجتها من صدري، فقد أخبرتني الممرضة أنها لديك 

قلت :

- على عيني سأحضر لك الرصاصة لكي تراها ، لكن لا أستطيع إعطاءها لك ، لأنهم سوف يطلبونها للتحقيق كما هي العادة 

قال بتودد شديد :

- أعرف هذا، لكن أرجوك يا حكيم ، المسألة فيها بهدلة لي وربما طرد من الخدمة !! 

قلت مستغرباً :

- معقول ؟!! طرد من الخدمة بالرغم من أنك أصبت وأنت تقوم بواجبك الوطني، وتضحي بحياتك من أجل الوطن ؟!!

اعتكرت عيناه ولاح فيهما انكسار قبل أن يرد قائلاً :

- لا واجب وطني يا حكيم ، ولا تضحيات ( واقترب وهو ينظر الى الباب متوجساً، وهمس بصوت خفيض في حذر ) عندك للسر  مطرح ؟

قلت :

- طبعاً سيادة العميد، لكن فهمني ما المشكلة ؟!

همس وهو لا يكفّ عن النظر الى الباب في حذر :

- يا حكيم المسألة فيها موت وحياة، فأرجو أن يظل الموضوع بيننا 

قلت :

- مؤكد، سرك في بير !

قال بنبرة مترددة :

- أعتقد أن الذي أطلق علي النار واحد من عناصر الأمن 

قلت مندهشاً :

- معقول !؟ عناصر الأمن !! ولماذا يفعلون ذلك ؟!

قال :

- قبل أيام ، في أحد الاجتماعات الرسمية، استنكرت إطلاق الرصاص من قبل عناصر الأمن على المتظاهرين العزّل، والظاهر أنهم شكوا في ولائي وباتوا يخشون انشقاقي وانضمامي إلى الثورة فوضعوني على قائمة التصفيات، وإذا أخذوا هم الرصاصة فسوف يستبدلونها ويتلاعبون بالتحقيق ويتنصلون من جريمتهم ويتهمون المتظاهرين بإطلاق النار عليّ ، لهذا أرجوك أن تعطيك الرصاصة لأنها هي الدليل الوحيد لصالحي !!

قلت مستنكراً :

- معقول أن يفعلوا بك كل هذا ؟!!

قال مع تنهيدة خرجت من أعماقه :

- كل شيء أصبح معقولاً في هذا الصراع المجنون 

سألته مستفسراً :

- صراع مجنون ! كيف ؟!!

قال  وهو يهز رأسه في أسى :

- صحيح أنني محسوب على النظام إلا أن ولائي للوطن أكبر، وأعتقد كما يعتقد كل غيور على البلد أن المشكلة كان يمكن حلها ببساطة دون دماء وخراب بيوت كما يحصل الآن، لكن للأسف ورطوا البلد في بحر من الدماء والأحقاد الطائفية التي باتت تهدد البلد بالتقسيم 

قلت :

- لا قدّر الله ، فمازال في البلد عقلاء لن يسمحوا بهذا الانزلاق 

هز رأسه بالنفي وتنهد بحرقة وقال :

- بل دخلنا في النفق المظلم الذي لن نخرج منهم سالمين

قال ذلك وقام يستأذن بالانصراف، فاستمهلته برهة وقمت إليه أصافحه بحرارة وأشد على يده، 

فشكرني وانصرف والدموع تترقرق في عينيه ، وسمعته يردد في انكسار :

- ضاعت البلد .. ضاعت البلد ...

وسوم: العدد 679