الفدائي
قعدت عند النار أنتظره . قالوا لي إنه سيأتي ربما بعد نصف ساعة . النار بين ثلاث حجرات من حجارة البناء . ترمدت بعض جمراتها . بين الجمرات براد شاي مسود ، وفوق إحدى الحجرات كوب . وتحت شجرة برتقال قريبة عدة أكواب بعضها قائم وبعضها مطروح على جانبه أو مقلوب على فمه . فوضي تليق بعمال . برد صباح فبراير يدفعني إلى إدناء يدي من النار . ملأت الكوب الذي فوق الحجرة فأمتعني شربه وأدفأني .
_ على العافية !
منبع الصوت قريب ، التفت يمنة فرأيته . لعله هو " الفدائي " الذي أنتظره والذي يشرف على
قاطفي البرتقال في البيارة التي جئتها باحثا عن عمل ، فقال العمال لي : انتظر حتى يأتي الفدائي !
كانت عبارته موجهة إلى عاملين ، وتحدث أحدهما معه ، فالتفت إلي واتجه نحوي .
قمت لمصافحته . ابتسم وقال : كيف حالك ؟ شربت شايا ؟
_ شربت .
_ اقعد !
يبدو في الأربعين . نحيف في وجهه مياسم هم تفصح عنها السمرة غير الطبيعية والتجاعيد .
سأل وهو يصب لنفسه كوبا : من أين الأخ ؟
وعرفت نفسي ، فسأل مهتما : حسين أخوك ؟!
_ أخي .
وهز رأسه مبتسما في أسى وقال : كانت كتيبتنا واحدة . هو الآن في مصر .
نطق الجملة الثانية بنبرة استفهامية ، فأكدت ما قال .
_ تحب تشتغل معنا ؟ ما زال عندنا بيارات كثيرة .
فابتسمت مسرورا وأجبته : جئت للشغل .
_ الله يحييك . الاحتلال ضرب البرتقال . لا تصدير له للسنة الثانية .
ونادى : إبراهيم !
فأجابه صوت : حاضر .
_ خذ حسن معك !
انتبهت إلى أن أي عامل لم يخاطبه بالفدائي ، وأن كنيته التي يخاطبونه بها هي " أبو العبد " ، وتبينت في جانب من البيارة ثلاث عاملات إحداهن كبيرة والأخريان شابتان ، أفردن وحدهن عن العمال . وعند انتهاء العمل الساعة الثالثة قال لي أبو العبد : ستبيت عندي الليلة .
قلت شاكرا له : بارك الله فيك !
_ لن أتركك . تذكرني بحسين .
_ في يوم آخر .
_ الليلة . بيتنا أقرب . ونأتي غدا معا .
لم أرَ داعيا للمبيت عنده ، وغالبت نفسي وذهبت معه متوجسا من قلق أسرتي لغيابي .
***
كان يلح على بالي سبب لقبه " الفدائي " مع أنه كان جنديا في جيش التحرير الفلسطيني ، ولم يكن من الفدائيين القوة الفلسطينية ذات المهام الخاصة التي يوحي اسمها بالشجاعة والتضحية ، وراتب عناصرها أكبر من راتب جنود جيش التحرير . وفسرت لنفسي لقبه بأنه ربما أبدى شجاعة مرموقة في الحرب وإن لم أحدد أي حرب . وقبل أن تغيب الشمس بوقت كاف قلت له :
ستقلق أسرتي خاصة أمي لغيابي ، والوضع يدفعها إلى القلق .
فرد نافثا دخان سيجارته كأنه يخاطب شخصا غيري : بعد قليل يبدأ منع التجول . كيف ستصل إلى أهلك ؟!
ورمى بصره من باب الخُص ( كوخ من أغصان الشجر) حانيا رأسه ، وتابع : وربما تمطر عليك !
وقذف بقية سيجارته خارج الخص الذي يجاور بيته المؤلف من حجرتين طينيتين ، واسترسل :
ألا تحب أن تبيت عند عمك أبي العبد وصديق أخيك ؟!
وفكرت : كيف سأقطع الشارع العام ( شارع صلاح الدين الآن ) ؟! يمكن أن تطلع لي دورية إسرائيلية في مكان ما ، ويمكن أن تفاجئني سيارة عسكرية لحظة وصولي إليه حين تكون كل الحركة الفلسطينية من سيارات ومشاة قد توقفت عن المرور فيه . منع التجول يعني رميي بالرصاص فورا . ووجدتني أسأله كأنني أهرب من خواطري المزعجة وحيرتي : لم سموك الفدائي ؟!
وفاجأه سؤالي ، وبانت مفاجأته في وجهه في ضوء موقد الكيروسين الذي أشعله قبل دقائق .
سأل مغالبا توتره : من أخبرك به ؟!
وفطنت إلى أنه يجهد نفسه حتى لا يحرجني ، وعظمت هذا الخلق فيه ، وأسفت لتهوري وخفتي ، وابتسم دون أن تبعد ابتسامته توتره وسأل : عرفته من أحد العمال ؟!
وخرج الجواب مني بصعوبة : قالوا انتظر الفدائي الذي يقبل العامل أو يرفضه .
فقال مشعلا سيجارة جديدة : أنت تعرف . لو علم اليهود باسمي لداهموا بيتنا ، وأصروا على معرفة سببه ، ولن نخلص منهم . يفرقون في معاملتهم بين الفدائي والجندي . قد يقتلون الفدائي أو يؤبدونه في السجن إن كان له عمر. علموا بجنود بعد الاحتلال وحققوا معهم وأطلقوهم . الاسم قصته طويلة !
ولاحظت أن إشراقة مفاجئة غالبت سمرة وجهه العميقة وتجاعيده المتزاحمة ، واستلقى على مخدة زرقاء نقش فوقها عصفوران بلون أحمر، ذكر وأنثاه . وبدأ أبو العبد يحكي : " المستورة أم العبد ، بنت عمي ، رفض أبوها ، عمي ، ترك البلاد حين هاجم اليهود بئر السبع . أخذ امرأته وبناته وأولاده ، واختفى في وادٍ ما ، في مكان ما . نحن هربنا مع غيرنا واستقررنا غربي بلادنا . قل ثلاث كيلو مترات . لم يكن خط الهدنة رسم . كنت في العشرين تقريبا . ولم يظن أحد من الذين تركوا بلادهم وبيوتهم أنها تركة بلا رجعة . ولا واحد فكر في ذلك . قال الناس أيام ونرجع . كنت أحب سعيدة ، واتفق أهلي وأهلها على زواجنا ، بنت عمي أنا أحق بها . وبعد ما تفرقنا ظلت في قلبي ، وظللت أنا في قلبها . وطال الفراق على المشتاق ، وانقطع الرجاء في اللقاء . وأرادت أمي أن تزوجني بنت أختها ، فقلت لها إنني لا رغبة لي في الزواج . والصحيح أنني حلفت ألا أتزوج غير سعيدة بنت عمي .كيف ؟ قلت يأتي الله بالفرج ، الصابرون دائما على خير . وفي صيف 1958 ، بعد عشر سنين من فرقة القلوب تسللت ليلا إلى بيت عمي . أعرف كل متر في الأرض أكثر من وجهي . لم أرَ تغيرا في الأرض . مشيت فيها كأنني أمشي نهارا . صحيح كان في القلب خوف ، لكنه ما كان كبيرا . صدق كنت أحس أنني في أرضي وأنه لا وجود لغريب فيها . البلاد تألفنا وتحبنا مثلما نألفها ونحبها . وصلت بيت عمي حوالي العاشرة . لم يصدقوا أنني جئت ، وبكوا وبكيت معهم . قلت لهم إنني جئت لأراهم وآخذ سعيدة وأرجع في ليلتي ، فقالوا الليلة التالية ، نريد أن نراك ، ووافقتهم ؛ فأنا مشتاق لهم ولبلادنا ، وزرت بيتنا وبكيت عنده وبكى عمي . بيت عمي بلا جيران . كل الجيران من أقاربنا تركوا البلاد في الحرب . والليلة التالية ودعتهم أنا وسعيدة بالأحضان والدموع . ومثلما كتب الله لي _ الحمد لله _ السلامة في ذهابي كتبها لي ولسعيدة في الرجوع . وفي الصبح كادت أمي تخرج من جلدها فرحة وذهولا برؤية سعيدة وبسلامتنا . تزوجنا في هدوء إلا من زغرودتين أصرت أمي عليهما فرحة بزواجي . وبعد أيام جاء شرطي وسلمني طلب حضور إلى المركز . لعب الفأر في عبي . علمت الحكومة بما فعلت . يريدون التحقيق معي . ذهبت ثاني يوم إلى مركز الشرطة ، وهاتك أسئلة ! لماذا ذهبت ؟! وماذا رأيت ؟! ومع من التقيت ؟! وهل لي علاقة باليهود ؟! يعني هل أنا جاسوس ؟! قلت كل شيء . ليس عندي ما يلومونني عليه ، واقتنع المحقق بصدقي ، وهنأني بزواجي ، ومدح جرأتي ، واقترح الضابط الجالس معه أن أنضم للفدائيين ، فوافقت بسرعة ، وعند الفحص بعد أيام قالوا لي إن في نظري ضعفا خفيفا ، واستغربت .وسماني الناس الفدائي ، وبعد ثلاث سنوات التحقت بالجيش أنا وحسين في دفعة واحدة . " .
قلت منبهرا متأثرا : فدائي وأكثر من فدائي .
فابتسم ابتسامة كبيرة ، ونادى طالبا العشاء .
قلت في عزم مفاجىء : أنا مروح !
فتنبذ استلقاءه وحملق في : بعقلك ؟! قد تموت !
فجرت قصته في جرأة كامنة تذيب أي تردد. قلت : أغامر مثلك . ربني يسلمني مثلما سلمك .
_ اسمع الرعد !
ووسم البرق في الشرق خطوطا متكسرة مثيرة للرهبة والقلق ، وانقذفت في غور الظلام .
وسوم: العدد 680