صحوة
البيت مكهرب .. مليئ بالمشاكل والهموم .. عليه هالات من الحزن والكآبة .. الأم رأس البيت ومنبع سعادته (آمال) حزينة باستمرار .. تعاني آلاماً في الظهر والركب .. تعاني أمراضاً في المعدة والأمعاء .. لكن الطب يقف عاجزاً أمامها .. فأوجاعها لا سبب علمي لها .. أما الأب مستقر البيت وأمانه (علي) فهو في عالم آخر .. عالم كله مال ونقود .. كله أصدقاء في الليل أعداء المهنة في النهار .. يخطف النوم خطيفة .. فنهاره عمل .. وليله سهر ..
الأبناء : (عمر وسالم ومي) .. هم الضحية .. توتر منزلي مستمر .. الأم مهمتها في الدنيا مراقبة (علي) فتراها تدفع (مي) بفنجان قهوة لوالدها علها تعرف هو مع من يتحدث .. أو تلقي بـ (عمر) في حضن والده عله يقرأ الرقم السري لهاتفه .. أو ربما أرسلت (سالم) يطلب من الوالد جهاز الكمبيوتر خاصته عله يستطيع مراقبة محادثاته على (الفيس بوك) وسواه ..
دخلت (مي) عند والدتها وسألتها :
ـ أمي ماذا تحبين أن أهديك في يوم ميلادك ؟
فما كان من الأم إلا أن انتفضت مذعورة ، وأشارت إليها أن اصمتي ، ثم سحبتها على جنب وقالت :
ـ أنت تعرفين أني أكره من يذكرني بعمري ..
قالت مي :
ـ يا ماما من يحبك سيحبك ولو بلغت التسعين ..
أنا وأخواي نحب عينيك المتعبتين لأن فيهما ذكريات التدريس وتعب الامتحانات .. نحب هاتين اليدين الخشنتين اللتين غسلت لنا وطبخت وحضرت أشهى الأطباق .. نحبك كيفما كنت ..
قالت آمال :
ـ يا ماما الأمراض تحاصرني ما لي مزاج لأي شيء ..
قالت مي بشجاعة وخبث :
ـ أتريدين أن أهديك رقم بابا السري ؟؟
لمعت عينا آمال ونظرت لابنتها بشغف .. لكنها أطرقت وقالت كمن جاءته صحوة بين النوم واليقظة وقالت معاتبة :
ـ ألهذه الدرجة أنا في نظرك ؟
قالت مي بحرقة :
ـ أمي .. أنت نسيت نفسك وأنت تبحثين عن أبي .. دعيه يهيم بك كما كان ، كنت امرأة أنيقة .. جميلة .. مثقفة .. واثقة من نفسك .. ابتسامتك الساحرة تخطف الأنظار .. ريح عطرك تتغلغل في الأنوف وتعلق في النفوس .. أين ماما المرحة التي تركض خلفنا وتضرب هذا وتقرص ذاك ..
وتلعثمت الكلمات في فمها وخبأت دمعة حرى في مقلتها وانصرفت ..
حاولت آمال أن تسترجع قوتها واتزانها وهدوء أعصابها .. نادت :
ـ مي يا مي ..
أعرضت (مي) وتلكأت في الإجابة ..
نادت أخرى :
ـ مي تعالي حالاً ..
جاءت مي تسحب قدميها سحباً ..
ـ نعم ماما ؟
قالت آمال :
ـ أنا أعشق العطور وأعتقد أني أحلل شخصية من أمامي من خلال عطره .. أحب أن أهدي كل أحبابي عطراً وأخشى أن أهديهم عطراً لأن العطر أمر خاص جداً .. بعطرك تشمين رائحة نفسك الداخلية .. تعودين إلى أعماقك أنت ، صفاتك أنت ، إن كنت دافئة أو هادئة أو فوضوية .. أو سطحية أو .....
أشرقت ابتسامة عريضة من فم مي .. وقالت :
ـ ما شممت أجمل من ريحك يا غالية .. أنت عطرنا بعطر روحك ..
عانقتها مي ثم انصرفت تتآمر مع إخوتها لعمل حفلة صغيرة للأم الكبيرة بقلبها وروحها ..
أما آمال فجلست على الكرسي .. تمشط شعرها الغجري الجميل .. وتضع مكياجها الهادئ الرزين .. تشعر بتناقضات في نفسها ولكنها أجمل تناقضات العمر .. الأولاد يكبرون .. يصححون لنا مفاهمينا .. يفتحون أعيننا على أخطائنا .. وربما أنقذونا من ضياعنا في زحمة دنيانا .. ما أجملهم يقتحمون نفوسنا ويعيدون لنا البريق الذي ما خبا لكنه استتر .. لسنا نحن فقط من يصحح الأخطاء .. بل هم أيضاً عقول متفتحة .. ونفوس بالله راضية مطمئنة ..
ثم قررت أنها لن ترضى في الحياة أن تكون كرسياً في باص تجلس عليه متى أردت الوصول إلى نقطة ما وتغادره متى أردت المغادرة .. ووقتما تشاء .. ويجب على الكرسي أن يبقى أنيقاً مريحاً لك مهما هجرته ثم عدت إليه .. بل قررت أن تصبح هي سائق الحافلة وستركب في حياتها من تشاء وتنزل منها من تشاء ..
وضعت بخات وبخات من عطرها الحبيب وقامت لتقود الحافلة من جديد ..
وسوم: العدد 680