نور الهداية
تتمة قصة ( الظلم ظلمات )
منذ أن حلت أمي علينا معززة مكرمة.. حلت على قلبي الراحة والسكينة، وإن كنت فيما مضى قد ابتأست على شيء فاتني من متاع الدنيا.. فإنما اليوم أبتئس لحال أفراد أسرتنا ولما فرطوه في حق أنفسهم.. وما اقترفوه في حق خالقهم.
وقبل أن تمر الأيام وينطوي الزمن آثرت أن أرسي قواعد أخرى في حياتنا، وأن أجعل موازيين القسط رائدة تحركاتنا، وفي ساعة صفاء قلت لأسماء:
- هذه أمي أمانة بين يديك، اعتبريها أمك.
- وهل تظن غير ذلك؟!
ثم أردفت قائلة: إنها أم الجميع.. وجدة أطفالنا لا ريب في ذلك.. ودون مزايدة.. ولا منّةَ لأحد عليها.
- لكِ الأجر والثواب إن شاء الله.
لم تدع لي فرصة كلام، ولا مجال لنصيحة، كانت هي البادئة قبلي، وهي الرائدة أمامي، بل القدوة المثلى لأطفالها، وقلت لنفسي.. لقد سبقك بها عكاشة، وذات يوم فقت لنفسي، فتساءلت عما كان من أمر زوجي مع أمي.. أين تذهب بها وتروح معها؟ أم تذرها في البيت وحيدة، كيف يا ترى تعاملها؟ هل ملت ؟ عساها سئمت رعايتها ؟
فقلت لها:هل تصطحبين أمنا معك إلى الدروس؟
أجابت: أجل.
- كيف ترينها:مقبلة، راغبة، أم تذهب هكذا معك، لتقتل الوقت؟
- أتصدق إن قلت لك: إنها أخذت تحفظ بعض سور القرآن.
- ولِم لا... قلتها سريعة مقتضبة، لكني ما إن سمعتها حتى انفرجت أساريري إن كانت منقبضة، حيث إني لم أكن أرى تجهم وجهي، إنما يمكن أن تراه التي تقف قبالتي، وإن تمكنت أن تسبر غوري من خلاله، فقد تعرف أن قلبي قد رفرف فرحاً لحظة سماعي كلماتها.. فغدت بلسماً شافياً له.
مضت الحياة رتيبة في بيتنا.. تملأ السعادة جوانحها.. فظل أمي في حياتنا أصبح وارفاً.. وراح الأولاد يدورون مع الزمن.. يتحلقون حول جدتهم.. يطلبون منها قصصاً وحكايا.. وما تجود به الحنايا، ها هي تدرج في دربها الجديد بسهولة ويسر، وكأنها تحاول أن تنسى أو تتناسى ما علق في ذهنها أو ما رسا في داخلها من رواسب بائدة، انبرت تتناول قصص الأبطال والعبّاد والزاهدين في السير والتاريخ، وتقص على أحفادها ما تستطيع أن تصوغه بفهمها الجديد، فإذا الصبح بين يديها أبلج، وإذا ضحى نهارها مستنير.
* * *
بقدرة قادر تبدلت الأحوال.. إلى أحسن مقام ومقال، فقد صار لأمي حجاب دائم.. ومبدأ قائم، قد اندثر الماضي السقيم إلى غير رجعة.
إنها اليوم أم لها قلب.. مليء بالعطف والحنان.. أم تملك يداً حانية تمسح بها عرق الجبين، وتُجلي بها ظلمة النفس.
إنها اليوم تتنقل في عالمها الجديد.. من حسن ٍ إلى أحسن، وكلما تداولت الأيام تفتح لها جديد.. جديد في نفسها التواقة إلى الخير والهداية.. حديث على علمها الضئيل الوضيع.. إنها إذن كانت ضائعة تائهة، ذهب شبابها هباءً وزبداً جفاءً.. وما كانت الزينة التي اتخذتها إلا هراءً.. وما كانت القرينات الباذخات إلا ثعابين، أدركت الآن أن كل الذي كان في حياتها إن هو إلا فقاعات هواء.. أيضاً لعله ابتلاء.. إنه ابتلاء، هكذا صارت تقول، كيف أمضت عمرها في لا شيء.. لقد أضاعت الكثير الكثير، وفاتها خير كبير، إذن لا يدرك المرء قيمة الوقت إلا بعد أن يعلو على الرخيص، ولا يستشعر حلاوة الإيمان إلا بعد ضلال عسير.. كثيراً تدعو ربها أن يسامحها على ما كانت فيه، وأن يغفر لها زلاتها وخطاياها.
الماضي ذكريات تائهة.. حين يعرض على صفحة الذاكرة يجري بالأسى والحزن في قلبها، فتسارع متخلصة منه، لاهجة اللسان بذكر ربها.. طافحة النفس بنعمائه عليها.
تبدد هموم ذلك الشبح الثقيل.. مصوبة الخطى للأمام، متوجهة القلب نحو الهدف المنشود.
أمي اليوم بفضل الله غير التي كانت بالأمس.
وذات ربيع أخضر مزهر، أفصحت بإشارة منها وبرغبة ملحة في باطن نفسها بتأدية واجب الركن الخامس عليها.
فما كان مني إلا الإيجاب، ومن المرأة الفاضلة سوى الحث والتشجيع.
فكان ذلك في أول موسم حج قدم علينا، صحبتها إلى البيت المعمور، بل رافقتها مثل السلامة.. وانتثرت في أثرها كعلامة.
ودارت الخواطر تلفني مسرعة.. أمي لم تعد بحاجة إلى من يُسقط عنها بعض فرائض الله عليها.. فها هي تؤدي عباداتها كاملة، بل هي لا تألو جهداً في دعوة من تراهن من نساء إلى طريقها الجديد، إلى ما كانت غافلة عنه.. جاهلة به.. حتى من صاحباتها القديمات اللاتي نسينها في غمرة حياتهن الصاخبة، ولم يعدن يلتفتن إليها عندما حالت بها الظروف، بل غدون يأنفن اللقاء بها، بل لعل إحداهن تقهقه ساخرة مما آلت إليه تلك المرأة.. أي أمي.
حتى هؤلاء قرينات السوء ما برحت أمي حفظها الله وبارك في عمرها.. تنصحهن.. مجلية لهن وجه الصواب فيما ترى وتؤمن به.
ورحت أطيح بالخواطر بعيداً عن ذهني، وأبعد عني أوهاماً كثيرة تداهم مخيلتي، إني أخشى المجهول، وأخاف أن يتخطف مني ما عز عليّ وغلا، لكن المجهول الموقوت جاء وكنا على موعدٍ مع القدر.
وارتحلت بركتنا عن الحياة الدنيا بعد أوبتها المحمودة، وقد عز علينا جميعاً فراقها.. وقد خلت الدار منها..فتركت في حياتنا فراغاً كبيراً.. لكن ظلالها بقيت مخيمة فوق رؤوسنا.. واقرة في صدورنا، وكان عزاؤنا الكبير أنها غادرت هذه الدنيا بعد أن كتب الله لها سبيل النور وطريق الهداية.
ندعو لها دائماً أن يشملها ربها برحمة منه ومغفرة.
* * *
وفي غمرة الخطوب والأحداث وجب عليّ أن لا أنسى شقيقي فلم أبتر الصلة به، وإن كان هو قد استاء من توجهاتنا وزهد فينا، فبترنا وقاطع رَحِمنا، غفر الله له وتجاوز عنه.
غير أن قصة أمي رحمها الله ورحيلها مؤخراً كأنه ترك في الجو أثراً، ولاحظت تغيرات قد طرأت على المجتمع وفي أفهام الناس، فلم يلجأ أحد هذه المرة إلى عمل «سقوط صلاة» وغير ذلك مما أعتبره أنا.. خزعبلات.
وقد صممت إن فكر البعض بذلك أن أعارضه بشدة.. بل أي شيء من بدع وابتكارات الناس في الدين.
وبعد أن اجتاحت العالم أحداث جسام، وانهارت كتل الجليد، وزاغت بعدها أبصار.. أحسست بواقع جديد يقترب ويتقدم.
فها هو أخي بدأ يرنو إلينا.. وعاد يصلنا.. إذن هناك أمر قد حدث.. قد زالت بعض الغشاوة، عسى أن يزول أيضاً ما ران على القلوب، إنها خطوات أولى على طريق العودة والنور والهداية.
وسوم: العدد 680