المَقَامَةُ البتراء
حدثني بمن هو بالأحداث خبير , وفي علم الرجال أمير , بأن هناك صعلوكاً حقير , أراد أن يرقى مرتقىً , ليس لمثله أن يرنو إليه , ولا لصنوه أن يقف عليه , فهذا الموضع للأشراف لا للأقحاف , وللأكابر لا للأصاغر, إلا أن الزمان قد دار دورته , وجاد المزن بغيث شره وورَّطه , ووقف كما النسر مزهواً بحقارته , ألغى السِّفر الذي به جاء , وللذي أحسن إليه قد لذع ونفث وخدع وأضرَّ وأساء .
وهذا ليس غريباً عليه, وأمرٌ ما فتئ محببٌ إليه , فهو الوارفِ المتاعب, الهارُّ من الذوائب , يعادي الأشراف ويقدم الأنصاف , هو النَّعلُ بلا قدم , والمتَّخذ من نفسه-ليُعبد- صنم وأيّ صنم , يتوارى من القوم من سوء فِعله , ويطأطئ رأسَه لخُبث قوله ..
ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
له في كل بيتٍ ثأر , وفي كل قفرٍ ذِكْر, تطارده الأكف المرفوعة , والعبرات المهطولة , و يبور من ذكره المرْبع الخصيب , ويضيق لصوته المرتع الرحيب , ويجمد منه السائل , وتبعد منه المنازل , أشأمُ من "طويس" , وأخبثُ من إبليس , وأقرب إلى الغبراء من "سيس" .
يا لعظائم ما يملك من أَحْواز, إلا أنه مع ذلك أشد تملقاً من الخازبازِ, ما أشد عداوته من العمائم , وما أقرب علاقته بالعوالم , له في قوائم المجرمين نسبٌ رفيع , وفي شجر الرجال فسلٌ وضيع, وفي إراقة الدماء بحرٌ فسيح, بينه وبين البرِّ سدٌ منيع, يُبشِّر المتبوع بالجوع, ويشد ُوثاقه للخضوع , ويحب عبادة الركوع , صوته يَجلب الفقر, وذِكره يُدخل القبر, بضاعته في الفشل رابية , وفي الإفلاس طائعة آتية, لسانه لا يفتر عن الكلمات الآتية :
لا خيل عندي أعطيها ولا مالُ فليُفسد النُّطق منيَّ وليفسد الحال
له وردٌ لا ينساه في الخنوع , وما أغباه من ضبْع الضُّبوع , ينادِي عليه المنادِي , وبُح صوت الحادي , يصرخ في كل وادٍ , أيها الوغد المغرور , والأخرق الموتور ..
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها واقعـدْ فإنّك أنـت الطاعمُ الكاسي
عديم النظر , عظيم الخطر , كثير الشرر , متقن الأشر, يكذب في الأثر , ويدلس على الدهماء وعامة البشر. اهتزتْ من هول ظُلمه البِطاح , وبِحقِّ فالق الإصباح: إنه لأكذب من"سجاح" , ومغرورٌ ومزهوٌ كا"الطرماح" , وما هو بطرماح , يرغي ويزبد , يصدر ويورد , يتباكى كالنساء , ويتلون كالحِرباء , ويتلوى كالرَّقطاء , ويشيع كالوباء , لم يعِ نصح ذوي الأبصار, من مغبة السباحة في برك الأقذار, كما قال "ابن سيّار" :
أرى خللَ الرمادِ وميضَ جَمْرٍ ويوشكُ أن يكونَ له ضرامُ
أسعر من نيرون , و أصلف من قارون , وأغبى من هبَنَّقة , لو رأي شره "عويس عبد الحليم" لتربع على عرش كتابه "المائة المجرمين" , ولذاع صيته كانتشار النار في الهشيم , كتاب مرقوم , وعار على مر الدهر يدوم, ما اقتدى إلا بشاوشيسكو الملعون , وبالشاه المأفون , وبهتلر المجنون , وباقتداء الابتداء , تأتي موافقة الانتهاء , ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء .
لا يقارع الرجال إلا عن غِرَّة , ولا ينازل الأبطال إلا في العقرب وطرة , مغبون ملعون , يبشر البراعم بالمنون , كأنه العمل المسنون , والربح المضمون, والفرض المحتوم, ويا للعجب !! فيتظاهر بالأمان, ويتناسى الثأر الذي قد حال حوله وآن عليه الأوان .
فلا تأمننَّ الدهرَ حُرّاً ظلمتَه فما ليلُ حُرٍّ إن ظلمتَ بنائم
اجتمع له من ثقيف النَّعتين, وحاز من الرجلين الصفتين , كذاب و مبير, لأهله من العاقين , ولجوقته من الخائنين , كالملدوغ -هو- لا يقر له قرار, ورائحة الدم في يديه تقطر كما الأمطار. أجهل من دابة , وأحقر من ذبابة , أعدى من السُّوس , وأشأم من البَسُوس, أنتنُ من جِيفة , وأَسْودُ من قطيفة, خبيثٌ حتى في نَسْله , وأضلُّ من حمار أهله , نصله - بإذن الله- مكسور , وتجارته- لا شك - تبور , وعنقه -عما قريب- مقطوع مبتور.
لا يدري إنسيٌّ ولا جنيُّ مَقامه , ويا لسوء مَقامه , يخشى ظلَّه , ويخوِّن خِلَّه , وليس هذا الحديث منكراً أو ضعيف , بل ويؤازرني قول "الرضي الشريف" :
إذا أنتَ أفنيتَ العَرانينَ والذُّرَى * رمَتْك الليالي مِن يد الخاملِ الذِّكر
وهَبْكَ اتَّقيتَ السَّهم من حيث يُتقى * فمَن ليدٍ ترميك من حيث لا تدري
فقلت له : وأين الناس ؟ فقال : أعماهم الوسواس , وأغواهم الأنجاس, إلا أنه بعد طول غياب , وقد تاب منهم من تاب, أدركوا أنهم شربوا من سُم الكاس, شاشة الأحمق والأقرع والحمَّالة واللوطيُّ والإِلماس , واليوم لا زيت به يطهون , ولا ماء منه يشربون , ولا دواء بسببه يبرؤون , سفينتهم كادت أن تغرق, وربَّانهم الأخرق أوشك أن يَبرُك .
سألته في دهشة : وأين العلماء ؟ أجهش من شدة البكاء , يا بُني : سؤالك طرْحُه مرفوض , وقولُك عليك مردود , ماذا تقول بمن باع دينه بغير دنياه , وغيَّر ودلَّس واتبع-بعد الشيطان- هواه ,على موائد النفاق عِزِين, وللدِّين مُولِّين, وللأعداء موالين, خالفت فِعالُهم أقوالَهم, وحنثتْ بين الناس أيمانهم , يحاربون أهل الدين , ويصفقون بالراحتين للفسقة المارقين.
انصرفتُ عنه في سكون, ولازال الحديث ذو شجون, والعرانين في السجون, ولله في خلقه شئون, وربَّ يومٍ صبُحه ميمون , وشمسه بالخير تكون, يدرك الحقُ أهلَه , ويأخذ كل راعٍ ناقته وجملَه , والأمور تصير ضاحكة لا بُكى , لا مخلوجة بل سُلكى .
وسوم: العدد 696