سياسة طقْ البراغي
* في أيلول من عام 1974سافرت أنا وزوجتي إلى السعودية للعمل مدرّسيْن إعارةً من وزارة التربية السورية وتصادف أننا في بداية شهر الصيام .ورغم أننا وصلنا الرياض في منتصف الليل إلّا أنني أحْسستُ حين خرجت من باب الطائرة أنني أدخل القسم الجواني من حمام (الويساني )بحلب .
*بعد يومين تهيّأنا للسفر إلى مقر عملنا في بلدة أسمها (عفيف ).تبعد أكثر من خمسمئة كيلومتر وهي في منتصف الطريق بين الرياض والطائف .سألني سائق سيارة الأجرة وهوبدوي عريق : هل أنتم صائمون ؟ قلت له : الحمد لله . فقال لي : ولكن الله يحب أنْ تُؤتى رخصُه ، وأنتم على سفر ، والحرُّشديد ، والطريق طويل ..
*وقبل أنْ ننطلق بلحظات حضر رجل مستعجل يريد السفر إلى عفيف وألحّ في طلبه واستأذنني أن يركب معنا ، فهو يحمل دواء خاصاً لأمه المريضة . رحّبت به وفرحت بعد انْ علمت أنه معلم فلسطيني من غزّة .وقد خفف الحديث معه شيئا من وعثاء السفر ، والوهج الشمسي المتسارع الذي يحبس الأنفاس وتكونت لديَّ فكرة عن أوضاع البلدة الصادمة فأصابنا اكتئاب جامح ، وندم جارح !ولات ساعة ندم !
*بعد أن استقر سكننا وهدأت نفوسنا قليلاً وسط مجتمع صحراوي جديد ، سرّني أنّ مدرساً حلبيا يعمل في المدرسة وهو أصغر منّي سنا ومن خرّيجي جامعة حلب ، واخوه واحد من أصدقائي .أما باقي المدرسين فكلهم من مصر ، ويشكلون كومة متراصّة ظاهريا ، ونقلوا معهم كل تناقضاتهم الثقافية والسياسية والاجتماعية.
*بدأت دوامي في الثانوية ، وأنا أتعامل مع شباب من بيئة مختلفة في تقاليدها وسلوكها ومفاهيمها الأخلاقية ، ووجدت صعوبة في البداية لأن المدرسين المصريين أرسوا سلوكا مغلوطا يقوم على محاباة الطالب واستعطافه ، ولكنّ الذي أخذ يقلقني هو ملاحقة المدير والاداريين لي في الصفوف ووقوفهم خلف الباب للتنصت أو الدخول المفاجئ إلى الصف مما أغضبني بعد أنْ علمتُ أنني الوحيد الذي تلاحقه العيون والآذان .
*ووجدتني أفكر بالعودة إلى حلب سريعا ، فالحرُّ لاهب ٌ، والطلاب متمردون ، والصيام صعب ، وزوجتي حامل وتعاني في مدرستها كما أعاني ، وقررنا العودة . فقابلت المدير وهو رجل لطيف وووسيم وخجول على غير أشكال من حولي , وطلبت منه أن يساعدني ..قال متبسما : هل السبب أننا كنا نراقبك ونستمع إلى دروسك وما تقوله للطلاب ؟ قلتُ هذه واحدة من الأسباب ، قال لي : ربَّ ضارة نافعة ، أنا اكتشفتُ أنك أفضل مدرسي الثانوية علما وسلوكا وفكراً، وشهد الطلاب أنك أكثر من يحبون ، وسأبوح لك سرّاً، منذ اليوم الأول الذي حطّتْ رجلك المدرسة جاءني (خويّك) الحلبي وهمس لي : هذا كاتب ومثقف. وأظنه اشتراكي ويمكن يكون شيوعيا .فالأفضل مراقبته ..وراقبنا وسمعنا فوجدناك مربّيا ومعلما صادقا لا شائبة عليك تحفظ من الحديث والقرآن أكثر مما يحفظ الواشي ..وأنا أعتذر ..وما يحيرني كيف يخطر ببال ابن بلدك أن يقول ما قال وهو يعلم أن هذه تهمة أولها الطرد
*وكان ذلك في رمضان من عام 1974 !!
وسوم: العدد 725