أعذار متبادلة
لم نكن قد تحدثنا إلي بعض منذ مايقرب من ثلاثة شهور. صباح اليوم فوجئت برقمها، استقبلته بلهفة وما إن قلت لها:"آلو"حتى هتفت:"صباح الفل. وحشتني جدا". قلت بحرارة:" أنت أيضا". كنا نشتاق إلي بعضنا البعض بحرارة رغم انفصالنا منذ عامين. لا أدري بالضبط ما الذي كان فينا يشتاق إلي ماذا فينا؟ لكن كانت تعبر بنا لحظات يعتصر الحنين فيها الروح ثم يفلتها. قالت بحيوية: "دعنا نلتقي اليوم في الخامسة عصرا. ما رأيك؟". أجبت على الفور:"بكل سرور. أين؟". لم تطل التفكير:" فليكن في كافيه كوستا بالمهندسين". قلت:" اتفقنا. نشرب قهوة وندخن ثم نخرج ونأكل في مطعم". صاحت:"الله. يكون جميل قوي". كان ثمت خيط من التفاصيل والذكريات يربطنا، خيط رفيع له طبيعة خاصة، إن لمسته بأمل أن يكون أقوى انقطع، وإن حاذرت الاقتراب منه يظل يهترىء ويتفتت على مهل في الزمن. تفاصيل جمعتنا، بعضها محبب إلي الذاكرة مثل قيامي في الصباح – عندما كنا معا - لأجدها جالسة إلي المنضدة تمضغ لقمة ببطء ولامبالاة مثل فرخ بط أو أرنب وبقايا النوم عالقة بملامحها كأنها في حلم لم تصحو منه، أيضا حين كنت ألمحها في منتصف حجرة النوم تنثني وتعلو بجذعها تشد البنطلون لأعلى وتحشر أطراف البلوزة فيه. لا أدري ما الذي كان يعجبني في ذلك المشهد. ولابد أن شيئا مني بقى في ذاكرتها بوسعه أن يحرك فيها الحنين. إلا أن الذكريات اللطيفة، متناثرة أو مجتمعة، مبهجة أو حميمة، كانت تتابع كلها في شبورة من ضجر. لم أجد تفسيرا لاندلاع علاقتنا في مطلعها ولا تفسيرا لخمودها بعد ذلك. هناك أسباب كثيرة لاشتعال القلوب وانطفائها، لكن ماجرى لنا بدا كأنما بلا سبب، كما أنه بلا سبب يتعاقب الربيع والخريف، إنه يحدث فحسب، وما من سبب ولا تفسير لانزلاق سحابة بهدوء ثم زوالها برقة.
قررت قبل الموعد بساعتين ألا أذهب. من أين انبعث هذا القرار؟ لا أدري. كان علي أن أجد حجة أقدمها لصفاء أعتذر بها عن عدم حضوري. لن ينطلي عليها قولي إني شعرت بالإرهاق، ولو قلت لها جاءني اتصال مفاجيء بشأن عمل مهم فلن تصدقني. قلبت في رأسي مختلف الأعذار وانتهيت إلي أن أفضلها مرض خالتي التي تسكن بمفردها قريبا مني. إذن سأتصل بها وأقول لها:" يا إلهي. أي سوء حظ هذا؟ تصوري أن خالتي اتصلت بي قبل قليل، لأن قدمها انزلقت في الحمام وانكسرت". ستعلق هي مدهوشة:" ياه. سلامتها ألف سلامة". سأضيف:"للأسف حالتها صعبة جدا". ستتنهد قائلة: "ياحرام". سأحبك القصة أكثر:" لابد أن أذهب إليها لأصطحبها إلي أقرب مستشفى". سترد هي بنبرة مواساة أعرفها: "لابد أنها تتألم بشدة". سأصيح بإعجاب:"سبحان الله. كأنك معنا وترين ما يحدث". ستقول:" نؤجل الموعد لا مشكلة". سأعتذر:" سامحيني. حقا غصب عني". بينما أنا أهم بالاتصال بصفاء وجدتها تسبقني وتتصل :"يا إلهي أي سوء حظ هذا؟ تخيل كلمتني عمتي من دقائق وهي تبكي! وقعت في الحمام فانكسرت ذراعها". علقت مدهوشا:"ياه! سلامتها ألف سلامة".أضافت:"وضعها سيء جدا للأسف". تنهدت قائلا:" مسكينة". قالت:"حجزت تاكسي وسأمر عليها لآخذها إلي طبيب". قلت بنبرة مواساة تعرفها هي: "لابد أن الوجع شديد". صاحت باعجاب:"سبحان الله. كأنك معنا وترى كل شيء". قلت لها:" نؤجل الموعد لا مشكلة". اعتذرت قائلة: " اغفر لي. غصب عني حقا". أنهينا المكالمة.
انتصر ضجرنا من التفاصيل الصغيرة على شوقنا إلي تلك التفاصيل. لا أدري ما الذي كان فينا يضجر ماذا فينا؟ لكن من يدري؟ ربما تحل لحظة يعلو فيها بداخلي الحنين إلي صوتها وإلي الكلمات التي تتكسر كالفزدق في فمها، لحظة تنجرف هي إلي ساعة كانت تناديني وأنا سارح ببصري بعيدا لا أسمعها. متى؟ وفقا لأي قانون يرجع المحبون إلي سيرتهم الأولى؟ ولم يكون الحب أحيانا نارا متصلة وأحيانا أخرى لا يكون؟. لا أدري. كل ما بوسعنا القيام به الآن هو أن ننتظر، يوما آخر، طقسا آخر، سماء أخرى. من يدري؟
وسوم: العدد 732