السلطات الأربع موزّعة.. فمَن يجمعها في العمل السياسي ؟ وكيف ؟

(السلطة على الأبدان ، والسلطة على الأموال ، والسلطة على العقول ، والسلطة على القلوب).

 الحديث هنا ، ينصبّ ، على فرض السلطة على الناس ، من الناحية السياسية . أمّا النواحي الأخرى ، الاجتماعية ، والإنسانية ، وغيرها .. فلها سياقات أخرى مختلفة ، لا مجال للحديث عنها هنا ، كسلطات الأب على أبنائه ، حين يكونون قاصرين ، وحين يكبرون ، وسلطات الوصيّ على مال اليتيم القاصر وبدنه ..!

*) الحاكم المستبدّ : سلطته مطلقة على الأبدان والأموال ، يفعل بها ما يشاء : ينهب من المال ما يشاء ، ويحبس ، أو يقتل ، أو ينفي ، من البشر، ما يشاء .. دون أن يحدّ من سلطته قانون ، أو يعترض على سلوكه أحد ، فهو ـ في نظر نفسه وسدَنة حكمه ـ إله ، لا رادّ لسلطانه ( فعّال لِما يريد) و (لا يُسأل عمّا يَفعل) ! وقد كان الطغاة المستبدّون كذلك ، عَبر التاريخ ..!

  أمّا سلطة الحاكم المستبدّ ، على العقول والقلوب ، فلا تأتي عن طريق القوّة المادية ، التي يملكها ، والتي يهيمن بها على الأبدان والأموال ، بل بوسائل أخرى ، يغلب عليها الخداع والتضليل ، وتزييف الحقائق ..!

فرعون مصر، مثلاً ، أراد إقناع الشعب المصري بألوهيته ، عن طريق إظهار قوّته وملكه وغناه : ( أليسَ ليْ ملك مصرَ وهذه الأنهارُ تجري مِن تَحتي..)

 وأصدر حكماً جازماً ، بأن ما يراه ، هو حصراً ، هو المناسب لهم ، وهو الخير، وهو الحقّ والصواب : ( ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيلَ الرشاد ) ! وحين قدّم موسى حجَجَه وبيّناته ( عبر الآيتين : العصا التي تنقلب إلى حيّة ، واليد التي تخرج بيضاء من غير سوء ، إذا ضمّها إلى جناحه.. ) ، وأوشك على سحب سلطة فرعون عن عقول الناس .. استعان فرعون بالسحرة ، ليعيدوا إليه هذه السلطة ، فما زاده الله إلاّ خبالاً، حين رأى السحرةُ ما يعجزهم ..! فانسحبت سلطة موسى على عقول السحرة أنفسهم ، أداةِ فرعون في الهيمنة على عقول الناس ! فطار صواب فرعون ، وطفق يهدّد السحرة ، ويدعوهم إلى إخضاع عقولهم لهيمنته من جديد ، أيْ: العودة إلى الإيمان بألوهيته ! إلاّ أن حجّة موسى ، كانت قد هيمنت على عقولهم بشكل تامّ ، فنقلتهم بقوّة عجيبة ، من عبادة فرعون ، إلى عبادة الإله ، الذي رأوا آياته الباهرة ، المسخّرة لنبيّه موسى ! لذا ؛ لم يكترثوا لتهديدات فرعون ، وآثروا الموت الشنيع الذي هدّدهم به ، على العودة إلى عبادته ، بعد أن تبيّن لهم الحقّ الذي لا ِمريَة فيه !   

أمّا كسب القلوب ، فالأمر فيه يختلف ! لأن كسبها لا يتمّ عن طريق الإقناع ، سواء أكان حقيقياً ، أم زائفاً ! بل عن طريق المعاملة الطيّبة ، التي تترك آثارها الإيجابية القوية على النفس الإنسانية ! ومن أنواع المعاملة الطيّبة : البِرّ بالناس ، والإحسان إليهم ، والاهتمام بشؤونهم ، وتفقّد حاجاتهم ومشكلاتهم ، ومساعدتهم على حلّها ، واللطف في معاملتهم ومخاطبتهم ..!

وقد قال الله عزّ وجلّ ، لنبيّه الكريم : ( فبِما رحمةٍ مِن الله لِنتَ لهمْ ولوْ كنتَ فَظاً غليظَ القلبِ لانفضّوا مِن حَولكَ فاعفُ عنهمْ واستغفرْ لهمْ وشاوِرهمْ في الأمرِ ..).

 وقال الشاعر : أحسِنْ إلى الناسِ تَستعبدْ قلوبَهمُ     فطالما استَعبدَ الإنسانَ إحسانُ

وقال الشاعر، أيضاً : وقيّدتُ نفسيْ في ذُراكَ مَحبّةً   ومَن وجَدَ الإحسانَ قَيداً تَقيّدا

 وقد أثبتت تجارب البشر، أن الحكّام الطغاة المستبدّين ، يعجزون عن كسب القلوب ، لأن طبيعة حكمهم للناس ، منفّرة في الأصل ، بسبب غياب العدل والشورى ، وبسبب استئثار الحكاّم بأموال البلاد ، وانفرادهم بإصدار القرارات ، المتعلقة بحياة البشر ومصير أوطانهم .. وهذا التسلّط كله ، إذا استطاعوا أن يخدعوا عنه العقول بتزييف الحقائق ، فـلن يستطيعوا به كسب القلوب !

     *) الحاكم العادل : واضح أن الحاكم العادل ، هو النقيض الأبرز للحاكم المستبدّ .. وهو وحده ، القادر على كسب العقول والقلوب ..! فالعدالة ، بمعناها العامّ ، تشمل الأخلاق  الكريمة ، والصفات الحميدة ، بما فيها العفّة ، والنزاهة ، والجرأة في الحقّ .. كما تشمل العدل في التعامل مع الناس ، وإعطاء كل ذي حقّ حقّه .. لذا؛ فهي مدعاة لكسب العقول ، بما يقتضيه ذلك من ثقة واحترام ، كما هي مدعاة لكسب القلوب ، باللين، والمعاملة الطيّبة ، والحرص على مصالح الناس ومشاعرهم !

    *) الحكم الديموقراطي : سلطاته نسبية ، ومجزأة ، وموزعة ، بين أفراد الفريق الحاكم ..

  فالحكم الديموقراطي جماعي ، بطبيعته ، لا يملك السلطات فيه شخص واحد ، بل مجموعة أشخاص ، أعلاهم رئيس الدولة ، وسلطة كل منهم مقيّدة بالقانون ، بما في ذلك السلطة على الأموال والأبدان ! فلا يجرؤ ذو سلطة منهم ، على إيذاء شخص ، ببدنه أو ماله ، إلاّ في حدود ما تسمح به قوانين البلاد ! وإلاّ ، تعرّض للمساءلة القانونية ، والمحاسبة ، وربّما العقوبة ، التي قد تؤدّي إلى فقدان منصبه !

     *) القوى والرموز غير الرسمية : العلماء ، المفكرون ، القادة السياسيون ، القادة النقابيون، الزعماء القبليون ..هؤلاء لا تكون لهم ، في العادة ، سلطة رسمية على الأبدان والأموال ، إلاّ بقدر ما يمنحهم الناس من هذه السلطة ، على أنفسهم وأموالهم! وهذا لا يأتي إلاّ بالتبعية ، بعد إيجاد سلطة على العقول والقلوب ..!

 فإذا تحقّقت لشخص ما ، من الفئات المذكورة ، سلطة على عقول فريق من الناس وقلوبهم ، وصارت لديهم ثقة به، تدفعهم إلى ائتمانه على مصائرهم، وقراراتهم، وأبدانهم، وأموالهم..  صار خطراً على الحكم المستبدّ ، وسعى إلى التخلص منه ، بكل وسيلة ممكنة ! فإذا عجز عن تصفيته ، أو إزاحته من الساحة ، سعى إلى تشويه سمعته، لإسقاط هيبته بين الناس ، ونزع ثقتهم منه ، ليخلو للحاكم وزبانيته ، وجه الشعب ، ويظلّوا من بَعده قوماً فاسدين مفسدين ، لا يخافون منافسة ، ولا يخشون مَن ينازعهم على قلوب الناس ، وعقولهم ، وأبدانهم ، وأموالهم !

 وهنا تأتي مهمّة المعارضة السياسية ، في كسب عقول الناس وقلوبهم ، عبر إثبات الكفاءة والعدالة والنزاهة ، والأهلية لحكم البلاد والعباد ، بمستوى أفضل بكثير ، ممّا يمارسه الحكم الفاسد القائم .. جدير بأن يضحّي الناس ، في سبيل الوصول إليه ، بأموالهم، وحتى بأنفسهم ، إذا اقتضى الأمر ذلك !

 ونرجو أن تصل المعارضة السورية ، أو فصائل كثيرة وكبيرة منها ، إلى هذه الدرجة من ثقة الشعب السوري ، أو إلى درجة قريبة منها نسبياً ، في أقرب وقت ! لأن النظام الحاكم أوصل الأمور في البلاد ، إلى حدّ تجاوز القدرة على الصبر والاحتمال ! ويُخشى من تفجّرات غير محسوبة ، تدخِل البلاد في دوّامة من التداعيات ، المؤدّية إلى فوضى تصعب السيطرة عليها ، أو الحدّ من تفاعلاتها المدمّرة ! في حين أن هذا النظام الفاسد المنبوذ ، يحسب نفسه ملك زمام البلاد والعباد ، بقبضة حديدية ، تضمن له البقاء على صدور الشعب ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، يعبث بنفوس الناس : قتلاً وسجناً ونفياً ، وبأموالهم: سرقة ونهباً ، وبعقائدهم : إفساداً وتبديلاً ! غافلاً عن البراكين التي تمور في صدور الناس ، والتي لا تزداد النيران فيها ، إلاّ ضراماً وتسعراً ، كلما أمعن في جَوره وفساده ، وقمعه واستبداده !  

وسوم: العدد 760