لماذا أبكيتني يا دكتورة؟
انهمرت عيناي فجأة في بكاء صامت لم يحدث منذ ثلاثين عاما وأنا أرد على رسالة الدكتورة نجلاء. يومها ودعت أم حلمي وعدت إلى البيت بعد انصراف المعزين، ظللت متماسكا حتى أوى كل من في البيت إلى مضاجعهم، وأخلدوا إلى النوم، فأطفأت النور ووضعت جنبي لينهمر شلال الدموع الصامت حرقة ولوعة على امرأة مجاهدة وإن كانت من غمار الناس وفقرائهم. كانت سيدة عظيمة بكل المقاييس، بذلت عواطفها وذكاءها وجهدها من أجل تربية أبنائها وخدمة أبي. تصحو في الفجر وتبدأ العمل حتى صلاة العشاء حيث تكون قد استنفدت كل طاقاتها.
الأهم من ذلك تشجيعها وتوجيهها وتضحياتها من أجلنا نحن الأبناء وفرحها بكل نجاح يتحقق وتوفير المناخ الملائم لتحقيق المزيد. ولا أظن شخصا في العالم يستشعر ما يعانيه الابن أو يكابده إلا الأم، فلديها رادار رباني يستكشف- دون إعلام- كل طارئ وكل غريب وكل مسرّة في أعماق "ضناها"، ويا لبلاغة الأمهات المصريات حين يسمين الأبناء بالضنا، ويهتفن عند الألم "يا ضنايا!"؛ وكأنه رديف لمتاعبهن وفرحهن أيضا. ومن هنا جاء صبرهن على جموح الأبناء وتقلب أحوالهم.
كانت الدكتورة نجلاء قد كتبت إلي حين أرسلت مقالي "المرأة المفترية والوكسة الحضارية" حول ظاهرة غريبة على المرأة المصرية الطيبة، وطلبت مني فيما يشبه العتاب الكتابة عن المرأة المجاهدة، فرددت عليها أني سأكتب بمشيئة الله عن أم حلمي المجاهدة في المقال التالي، وما كدت أنتهي من الرسالة حتى انداح الدمع الصامت يذكرني بما جرى قبل ثلاثين عاما، وكنت يومها قد تجاوزت الأربعين، ولا أذكر أني قبل الأربعين قد بكيت هكذا، فقد كنت عصي الدمع، وعشت أيام القتال عقب وكسة 1967م، حتى ما بعد حرب رمضان، وشاهدت فقدان الرفاق وإصابتهم، ومتاعب ومصاعب قاتلة، ولكني لم أذرف دمعا مثل يوم رحيل أمي الذي تجدد هذا الأسبوع!
المرأة الأم هي الدنيا والجنة والحلم. الوحيدة في العالم التي لا تصطنع الحب للأبناء ولا تدعيه ولا تطلب مقابلا له، وهي الرحمة البشرية التي منحها الخالق لأطفالها، وهي في مصر تختلف عن بلدان العالم- فيما أزعم- التي تمنح الأسرة- زوجا وأبناء- روحا صافية ندية من الفداء والتضحية والعطاء دون انتظار مقابل.
نشأت والفلاحات في قريتي يبذلن الغالي والنفيس من أجل أسرهن. يعملن في البيت والحقل ومجالات العمل الأخرى بلا انقطاع، ويدبرن الحياة الشاقة لتكون أكثر سلاسة بالحمد لله والشكر، ويرضين بما أعطاهن الله دون تذمر أو غضاضة، فنعمن بما يسمى راحة البال، ثم قدمن فلذات الأكباد للدفاع عن الوطن، واستسلمن لقضاء الله وقدره حين تأتي أخبار الاستشهاد أو الإصابة أو الأسر..
الأم المصرية المجاهدة نموذج يختلف في التحمل والمعاناة. ليس هناك من يماثلها إلا قليل، وهي ترى زوجها أو ابنها أو أخاها أو قريبا لها يقتل في الميادين أو الشوارع أو تغتاله يد الإجرام والوحشية والظلم والاضطهاد، لأنه يقول ربي الله، ويصدع بالحق، ويرفض القهر والعبودية والطغيان؛ فتقول حسبي الله ونعم الوكيل!
في مصر توجد مائة ألف امرأة- على الأقل- تنتظر زوجها أو ابنها أو شقيقها أو قريبها الذي تم تغييبه وراء القضبان، لأنه لم يوافق على المشي في زفة الفرعون، ولم يطبل، ولم يصفق، ولم يكذب على نفسه أو الآخرين، وآثر أن يرضي الله!
وكانت من قبل وقودا للأبناء والأزواج والأقارب في ثورة يناير العظيمة، واستقبال الشهداء الأبرار. في مصر الظالمة المظلومة تعيش المرأة المجاهدة في وضع لم يسبق أن عاشته، وهي تسعى خلف الزوج أو الابن أو الشقيق أو القريب الذي يقبع خلف القضبان، فتسافر إليه من الشمال إلى الجنوب أو العكس، فتراه بعد عذاب للحظات خاطفة وقد لا تراه، وترجع بالمهانة والإذلال، ولكنها لا تيأس أبدا من أجل ذويها مهما تجشمت من متاعب ومصاعب! وأقسى ما يجري للمرأة المجاهدة في مصر أن تسمع عن فتيات أو صبايا أو نساء يقبعن خلف القضبان، ولم تكن الجريمة المنسوبة إليهن مخلة بالشرف أو الكرامة أو مخالفة القانون، ولكنها حب الوطن والدفاع عن الحرية والعمل من أجل العدالة. ومن هؤلاء من تتعرض للامتهان والتعذيب والاغتصاب، وتفتقد من يدافع عنها أو يغضب من أجلها.
المرأة المصرية تواجه الفقر والغلاء وفساد التعليم وانهيار الرعاية الصحية، بصبر أيوب، والتحايل على المشقات لتسير مركب الحياة بطريقة ما. ولولا تدبير المرأة المصرية المجاهدة لتوقفت الدنيا.. ولكن أني للمرأة المزيفة أن تفهم ذلك؟
المرأة المزيفة ليس نتاجا لمصر الطيبة. إنها نتاج لشيء آخر، واسألوها:
هل ملايين المصريات يذهبن إلى النوادي والهايبرات والمولات؟ هل ملايين المصريات متفرغات لمشاهدة عروض الأزياء وأخبار الموضة وأحدث عمليات التجميل والبوتكس؟ هل ملايين المصريات مشغولات بالمجلس القومي للمرأة وهمومه الهامشية في التطبيل والرقص للسلطة، والترويج لحبس الأزواج وإشعال الحرب بين الزوجين بالقوانين الظالمة، ومنع الحجاب، وتغيير آيات الميراث، وتغليظ العقوبات في موضوع الختان، وتحرير المرأة من الإسلام؟
إن المجلس القومي للمرأة وجمعيات المرأة وامرأة التلفزيون لم تقدم للمرأة شيئا مفيدا، اللهم إلا مساندة سيدات مصر الأوليات في عدائهن السافر للإسلام والتربية الإسلامية والتشريع الإسلامي! لم نسمع أن مجلسا أو جمعية نسائية احتجت على اعتقال النساء المجاهدات، لم نقرأ أن مجلسا أو جمعية استنكرت ما يجري للمعتقلات- بلاش المعتقلين- من قهر وإذلال وتعذيب. متى انتفض أنصار المرأة المزعومون أو المزعومات لتصحيح صورة المرأة في السينما والدراما؟ وهي صورة زائفة تحض على الانحراف والانحلال، ولا علاقة لها بواقع المرأة المصرية الحقيقي!
المرأة المصرية تبني المجتمع تحت أسوأ الظروف الإنسانية، وتقدم عطاء بلا حدود، وتتحمل العبء الأكبر في المتاعب التي يصنعها المستبدون والطغاة. ومع ذلك نسمع أن المرأة الزائفة تريد تمكين المرأة! وهل الرجل الحرّ مُمَكّن؟ إن الحرية لا تتجزأ. المجتمع الحر يعنى رجلا حرا، وامرأة حرة، ولا يمكن لمجتمع أن يطالب بتحرير المرأة، بينما الوطن كله مستعبد تحت الاستعمار الخارجي أو الاستعباد الداخلي.
المرأة المجاهدة هي الأصل في المجتمع المصري البائس، وهي الكريمة وأهل الكرم، وهي أم حلمي، وملايين أخريات مثلها، وهي التي جعلتني اليوم أسفح دمعا غزيرا.. وأبكيها مرة أخرى بعد ثلاثين عاما!
الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
وسوم: العدد 764