تأبيد التخلف
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
يرصد تدوين "قصة التخلف" في عالمنا العربي استدعاء استكشافياً للواقائع والأحداث وقراءتها بطريقة استقصائية لاتهمل التفاصيل، فهي طريقة تقود لمعرفة الحقيقة والبحث في الجذور علّنا نكتشف الحلول المناسبة، وإجراء حفريات عميقة تمكننا من التشخيص الجيد، وبناءً على ذلك فتجذير التخلف عندنا يقوم على عاملين أساسيين كل منهما يحدثُ أثره في تمتينه حتى أصبح حائلاً دون اللحاق بركب الحضارة التي انسحبت من ديارنا إلى مناطق أخرى.
والحديث عن كلا العاملين يسمح لنا بمزيد من الإنصاف والرؤية الواقعية بعيداً عن التضخم الذي أصيب به بعض كتابنا حين يطغى السخط على أحد العاملين دون الآخر، أو يجري عزل عامل عن أخيه.
▫العامل الأول: ترسانة الضغط الخارجي :
حيث وما زلنا منذ سقوط غرناطة نعيش آثار ذلك السقوط، ونمسح جروحاً تثعب دماً، فيحرص الغرب المحتل لأوطاننا على تأبيد تخلفنا، ويضع الاستراتيجيات تلو الاستراتيجيات لضمان استمرار ذلك التأبيد، ويتحرك فاعلاً بمسارات كثيرة منها ما هو عسكري، ومنها ما هو فكري حتى عاشت أجيالنا المخطوفة ذهنيا، ومازالت تعيش الصدمة، وتعجز عن امتصاصها حيث واستراتيجية الغرب أن يوسع الفجوة بين الصدمة التي تلقيناها وبين القدرة على سرعة امتصاصها، فبقينا نعيش الصدمة دون إفاقة، ولم نتمكن من تضيق المساحة بينها وبين النهوض الجديد.
إن الغرب يحمل السلاح، ويحرس تخلفنا بتعبير المفكر السوري (برهان غليون) في كتابه (محنة الأمة العربية). أوروبا والغرب مسكونون بثقافة الإقصاء فلا يستطيع الغرب أن يضمن تقدمه إلا باستمرار تخلف الآخرين. ولا يمكن أن يتصور نجاحه إلا باستمرار فشل الآخرين.
إن حراسة التخلف تعني أن تقاد البلاد العربية بأنظمة تتلقى لائحة تعليماتها من مكاتب الغرب المشرف على التأبيد، الذي يضع لها الملفات على أدراج حكوماتها، ويرسم خطوطاً حمراء عليها أن تقف عندها، فأهلكت تلك الخطط المرسومة الحرث والنسل، وجاءت على مناطق واسعة من أجزاء العقل العربي الذي أرهقه (الاستبداد) العريق، وشل فاعليته وحركته، ولم يعطه أدنى مساحة من البيئة المناسبة، والتعليم المثمر، والجسم الصحي السليم، نتيجة تردي الخدمات وتآكلها، فعاد المواطن العربي منهكاً يلهث خلف قطعة خبز تبقيه على قيد الحياة إلى حين، أما أن يبدع، ويبتكر، ويطور نظاماً خاصاً به يحيله من مستهلك إلى منتج فذلك ما لا يسمح به الغرب.
منظمة "الفاو" الأممية الخاصة بأنظمة الغذاء ومكافحة الجوع منظمة تنتج الجوع، وترعاه، وتصدره للعالم الثالث الذي نتصدر قوائمه بما يخدم خطط شركات الاقتصاد العالمية الكبرى، ذلك ما كشفه التقرير الذي أعده "فرانسيس مور لابيه" وزميله "جوزيف كولينز"، وهما من كبار خبرائها حيث تسرب التقرير بعد منع طباعته، وأعيد طبعه بالعربية في سلسلة عالم المعرفة رقم 64 بعنوان : (صناعة الجوع وخرافة الندرة) الذي يقولان فيه : "إن العدد الهائل للجوعى في العالم يوجد في مواجهة وفرة الموارد، وهنا تكمن الإهانة"
وبحسب الإحصائيات الواردة في الكتاب فإن العالم ينتج كل يوم رطلين من الحبوب لكل رجل وامرأة وطفل على وجه الأرض، هذا عدا البقول والفواكه والخضروات واللحوم، وهذا الإنتاج الوفير لكوكب الأرض الذي يدحض فكرة أنه لا يوجد غذاء للجميع يأتي رغم أن الأرض لم تستنفد طاقتها فعدد الأراضي المزروعة في الأرض لا تبلغ نسبتها أكثر من 44% من الأراضي الصالحة للزراعة..
ما دام الإنتاج الغذائي بهذه الوفرة إذاً أين تكمن المشكلة ؟ :
يقول (جيفري ساكس) مدير معهد الأرض فى جامعة كولومبيا الأمريكية وأحد أكثر مائة شخصية تأثيراً في العالم في كتابه " نهاية الفقر : " إن الدول الغنية قادرة وخلال فترة وجيزة على القضاء على الجوع والفقر لكنها لا تريد.. إنها حراسة التخلف باختصار.
في عام 1997م تولى الاقتصادي الأمريكي الشهير والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، "جوزيف ستيجليتز"، منصب نائب الرئيس الأول وكبير الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي. بعد فترة وجيزة من عمله داخل أروقة البنك الدولي واطلاعه على خباياه، بدأت تتكون لديه بمرور الوقت خيبة أمل جراء سلوكيات البنك الدولي المريبة، فبدأ يتوجه للميكرفون العام ويذيع رأيه على الملأ. ومع تزايد حدة انتقاداته للبنك الدولي، تمت الإطاحة به من منصبه، بناء على أوامر من وزير الخزانة الأمريكي "لاري سامرز". وبعد مغادرته البنك أنفق ما تبقى من سنوات عمره في فضح ممارسات البنك وتصرفاته المشبوهة تجاه الفقراء.
وليس جوزيف وحده في هذا الطريق ف "رافي كانبور" الاقتصادي المتميز في مجال التنمية، الذي عينه البنك الدولي ليقود فريقًا في كتابة تقرير عن التنمية في العالم (WDR) حول الفقر. في يونيو عام 2000 استقال بشكل مفاجئ، بسبب إجباره قسرياً لتغيير في حقيقة الوضع الاقتصادي للبلدان التي سيتم كتابة تقرير التنمية عنها.
أما حراسة آبار النفط والصفقات المليارية من الشركات العابرة للقارات فله روايات أخر لا يمل المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي والفلسيطيني منير شفيق وآخرون من فضحها وروايتها.
إن تقديم البنك الدولي نفسه على أنه المنقذ الأسطوري من الفقر والفاقة عنوان سحري يرفضه الاقتصادي الكوري الجنوبي الشهير، "ها جوون تشانغ"، وأنهم في الواقع «سامريون أشرار» لأن دوافعهم أنانية بشعة تتمثل في تهيئة بيئة سياسية في الدول النامية تكون صديقة للشركات عابرة القارات خاصتهم للتهام المزيد من ثروات العالم النامي وسرقته بطريقة احترافية "فـ11% من سكان العالم يستأثرون بـ85% من ثروات العالم" يعترف نعوم تشومسكي بما تمارسه بلده من عمليات نهب وسرقة.
في كتابه المميز «الحكام الجدد في العالم» يسرد الصحفي الأسترالي الشهير، "ريتشارد بيلجر"، أن "البنك الدولي" ومولوده "صندوق النقد" هما وكيل حصري لأغنى البلدان على وجه الأرض، وخاصة أمريكا، وتتمثل مهمته الشريرة في تجذير الإفقار من خلال: " تقديم القروض للدول الفقيرة، شريطة خصخصة اقتصادها والسماح للشركات الغربية بحرية الوصول لأسواقها ومواردها الخام." وما قصة انهيار الاقتصاد الاندونيسي عام 97م عنكم ببعيد.
وتتجه حراسة التخلف إلى نشاط آخر أكثر أهمية من التهام المال والثروة والتجويع المقصود، ألا وهو تغذية الفكر بسموم تضمن بقائه متخلفا إذ يحدد "هاردي" أحد حكام فرنسا بالمغرب الخطوط العريضة لتصور نظام التعليم الجديد بالمغرب في لقاء له بمكناس سنة 1920م مع جماعة من الحكام الفرنسيين إذ يقول في خطابه " منذ 1912م دخل المغرب في حماية فرنسا، وأصبح في الواقع أرضاً فرنسية وعليه، فيمكن القول: إن الاحتلال العسكري لمجموع البلاد قد تمّ، ولكننا نعرف نحن الفرنسيين أن الانتصار بالسلاح لا يعني النصر الكامل، إن القوة تبني الإمبراطوريات، ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام إن الرؤوس تنحني أمام المدافع في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان، وإن كانت هذه المهمة أقل صخبا من الأولى فإنها صعبة مثلها وهي تتطلب في الواقع وقتا أطول.
ومن أجل إخضاع هذه النفوس وجب وضع مخطط لإعادة هيكلة التعليم بالمغرب تكرس الطبقية التعليمية التي ذكرناها وإعادة رسم الفكر والتصورات التي ستغذي سلوكهم فيما بعد."
إن نسبة عالية مما نحن مصابون به اليوم تعود للعامل الخارجي الذي يزرع كاميرات المراقبة على أطراف حدودنا يرصد تخلفها ويحميه ويحذر من المساس به فقد أضحى الاتجار بالتخلف اقتصاداً ضخماً لرعاته وصانعيه، حتى باتت كل التقارير المصاغة في مراكزهم تتحدث عن ضياع العرب وترفدنا بمزيد من اليأس والإحباط لجعل كل واحد منا (مشروع معاق). وسط بيئة طاردة للكفاءات جعلوها مقابر جماعية لأفكارنا وطموحاتنا، وللقصة بقية...
▫العامل الثاني: حجم الضعف الداخلي :
إلا إن الهامش المسموح به لنا الآن هو أن نطور أسلوباً ذاتياً فردياً يكسر تلك الأغلال، ويقفز على أسوارها في دائرة المتاح.
فالاتكاء على (العامل الخارجي) في سبب تخلفنا، وتجاهل الداخلي يولد (انتظارية) قاتلة و(تبريرية) مقيتة، ويصنع شللاً نصفياً يعوقنا عن الحراك. وينجب مزيداً من المعاقين فكرياً وحركياً.
لقد طور القرآن نظرية فريدة في الاتكاء على (العوامل الداخلية) وحدها، وذهبت آيات القرآن الكريم تركز على البناء الذاتي، وتحصنه، وتمنع زعزعته، فجاء الأنبياء جميعهم بلا استثناء لا يملكون أدنى مقومات القوة المادية، فطوروا منتوج المسئولية الداخلية حتى انتفض على ما حوله من قيود، وحتى (موسى بن عمران) الذي عاش في القصر الفرعوني لم يأته التكليف إلا بعد أن غادره بعيداً. ففي التركيز القرآني على العامل الذاتي (بُعد تحريري) من كل المتعلقات المحيطة التي يستخدمها الإنسان حيلا نفسية دفاعية للتخلص من المسئوليات، وهو (بُعد نهضوي) يستفرغ الجهد في تحصين البناء الداخلي، وتمتينه وتوليد مصانع إنتاج الحضارات .
إنها النظرية التي راح الدكتور ماجد عرسان الكيلاني يرسم ملامحها في كتابه (هكذا ظهر جيل صلاح الدين) الذي ألفه سنة 1993م، وقدم من خلاله تراكمية بنائية من عدة أدوار كان ساكنو الدور الأخير هم جيل الإنجاز التاريخي العملاق الذي (حرر القدس). يقول: " إن ظاهرة صلاح الدين ليست ظاهرة بطولة فردية خارقة، ولكنها خاتمة ونهاية ونتيجة مقدرة لعوامل التجديد ولجهود الأمة المجتهدة، وهي ثمرة مائة عام من محاولات التجديد والإصلاح. وبذلك فهي نموذج قابل للتكرار في كل العصور".
إن الدكتور الكيلاني يستنتج عبر مختبرات فحص تحليلية تاريخية دقيقة أن القوة والمنعة والرسوخ المعرفي "إنما ولدت حين تزاوج عنصران: الإخلاص في الإرادة، والصواب في التفكير والعمل، فإن غاب أحدهما عن الآخر فلا فائدة من الجهود التي تبذل والتضحيات التي تقدم"
وتلك البنائية الضخمة الملهمة هي التي منحت المفكر السوري الشركسي (جودت سعيد) في أن يحدد ترسانتها التنموية الصلبة ومواد انتاج الحضارات حين سئل كيف تصنع الحضارات؟
فأجاب: "بأداء الواجبات الصغيرة." يشير إلى بناء مصانع المسئولية الذاتية بداخلنا وبداية التأسيس والإنشاء.
إن كثيراً من الدراسات تشير إلى أن الإنسان العربي مشلول بكميات هائلة من العجز والكسل الذي يكسو تفاصيل حياته ويعوقه عن احراز أي تقدم يذكر في دائرة المتاح وفي حدود قدراته.
الأمر الذي جعله يهدر كميات كبيرة من ممتلكاته العقلية ويتلف قدراته الذهنية والفكرية، وهو ما دعى الأستاذ بجامعة البحرين الدكتور مصطفى حجازي يصدر دراسته الفكرية الرائعة " الإنسان المهدور".
إن العرب ينتظرون سقوط الغرب منذ ما يقرب من 100 عام، وكتبوا في ذلك قصصاً ومدونات كثيرة يرسمون بها نبوءات السقوط وطقوسه دون أن يقدموا طوال تلك الفترة بديلاً حضارياً متميزاً يسدّ الفراغ.
لسنا معنيين بسقوط غيرنا بقدر ما نحن معنيون بارتفاعنا وريادتنا، فالاجتهاد في الصعود أهم من انتظار السقوط.
إننا بحاجة لاستجابة فعلية سريعة لنظرية القرآن الكريم التي قالت له (اركض برجك)، وقالت لها (وهزي إليكِ) . ونزع العقل العربي من (ذل) الأخذ إلى (عز) العطاء، وتخليصه مما علقت به من ترسبات الأفكار التي ألجتمه التقليد وشخص بصره بنظارات الانبهار، وبقي مخطوفاً منذ ذلك الزمان "وهذا هو المطلوب في إعداد جيل يبني بعقله ويديه لا بعقل غيره ويديه" يشير الدكتور محمد أبو موسى. ولا أشرف من المعرفة إلا أن نتعلم طرق صناعتها.
إننا نشعر بالخجل حين تخلينا جانبا عن استلام راية جهود علمائنا في بناء المعرفة وانتاجها واستلمها غيرنا، فطورها، وبنى عليها علوماً، ولم يخجل في نسبة الكثير منها إليه مؤخراً، وقد قضى "فؤاد سزكين" أحد الباحثين الأتراك 60 عاماً، وهو مقيم في ألمانيا يبحث في أصول الكتب التي نسبها الأوروبيون لأنفسهم، وهي مترجمات ونظريات لغيرهم في موسوعته "تاريخ التراث العربي الإسلامي".
إن (ابن خلدون) الذي طور نظرية العمران من خلال فحص التاريخ واستنتاج قوانينه، وهي نظرية قرآنية بحتة كما يشير ( عماد الدين خليل) في دراسته "ابن خلدون إسلامياً" كان يتمنى من الأجيال الإسلامية أن يحملوا من بعده تراكمية علومه التأسيسية، ويسندوها، ويطوروها على أرض الواقع لكنه خُذل، وخذل عدد آخر من زملائه.
فماذا قررنا الآن ...؟؟ !!
وسوم: العدد 767