الاتحاد الأوروبي والنووي الإيراني
يبدو أن الاتحاد الأوروبي (ولا سيما ألمانيا وفرنسا كما بريطانيا) صامد حتى الآن أمام الضغوط الأمريكية في الموقف من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وما يترتب على ذلك من عقوبات، بل المزيد من العقوبات.
إذا كان استمرار الاتحاد الأوروبي في معارضته لقرار ترامب في الموضوع النووي الإيراني، مشفوعاً بعبارة "حتى الآن"، فذلك لسببين: الأول أن أغلب المحللين توقعوا له الرضوخ السريع والمبكر، الأمر الذي استحق معه أن يُشفع بـ"حتى الآن". أما الثاني، فكون احتمال التراجع والعودة إلى الخضوع للضغط الأمريكي ما زال قائماً، وسيستمر إلى بعد "حتى الآن".
الذين غلّبوا احتمال خضوع الموقف الأوروبي لموقف ترامب في الموضوع النووي الإيراني أرجعوه إلى الأسباب التالية أو بعضها: أولا: الروابط الأمريكية- الأوروبية ما زالت قائمة في حلف الأطلسي (الناتو). ثانيا: أوروبا توافق أمريكا في الموقف من إيران في قضيتي الصواريخ الإيرانية، كما ضد سياسات إيران في المنطقة، ولكن مع الاختلاف فقط حول الانسحاب من الاتفاق النووي الذي هو نتاج خمسة زائد واحد، أي أن أوروبا شريكة في صنعه، لأن الاتفاق أصبح وثيقة دولية. ثالثا: المصالح الاقتصادية العائدة إلى أوروبا من خلال الرضوخ لسياسة ترامب أكبر بكثير من تلك العائدة من معارضته (أعتبر هذا البعد هو الأهم).
ولكن بالرغم من هذه الأسباب الثلاثة، ما زالت أوروبا متمسكة بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي، بل تصرح برفض الموقف الأمريكي ونقده. فكيف يفسر هذا الموقف الذي يناقض الأسباب الثلاثة القوية جداً؟ الجواب يكمن هنا في المخاطر التي تمس المصالح العليا الأوروبية من الرضوخ لسياسة ترامب، وهو رضوخ عليه أن يمتد إلى الموقف من المناخ، ومن القدس، ومن مختلف سياسات ترامب، بما يعني إنهاء أية استقلالية لأوروبا، ومن ثم خروجها من ساحة السياسة الدولية؛ لأن الرئيس الأمريكي ترامب لا يعرف كيف يتحالف مع دول كبرى تحالفاً ندياً أو شبه ندي، الأمر الذي سيفرض على أوروبا أيضاً الرضوخ لسياسة التعرفة الجمركية التي فرضها على استيراد الصلب والألمونيوم ومعادن أخرى.
ومن هنا لا يكون السبب الذي يجب أن يحدد الموقف الأوروبي نابعاً من مجرد الحسابات الاقتصادية للشركات الأوروبية، والتي ترتبط بأمريكا أكثر بكثير من ارتباطها بإيران، والمحافظة على الاتفاق في مواجهة العقوبات. ولا يجب أن يربط بسبب التحالف في الناتو، وقد وجه له ترامب ضربة بمطالبته أوروبا بزيادة الشراكة المالية فيه، كما يجب أن لا يربط بالتوافق مع أمريكا على معارضة سياسات إيران الصاروخية أو الخارجية. وبهذا يكون على أوروبا أن تأخذ من خلال الاختلاف مع ترامب حول الموقف من الاتفاق النووي الإيراني؛ موقفاً له علاقة بالاستراتيجية، وليس بالاقتصاد البحت؛ كما ركز الكثيرون حين توقعوا رضوخاً سريعاً من قِبَل أوروبا لأمريكا (الفارق بين مئتي مليار وعشرين مليار في مصلحة العلاقة بأمريكا).
لا شك في أن ثمة سبباً استراتيجياً مقابلاً من حيث أهميته، يضغط على أوروبا في المقابل، للبحث عن تفاهم مع ترامب إلى حد الرضوخ بدلاً من معارضته، ألا وهو الخوف من روسيا، ولا سيما في المرحلة الراهنة، بعد أن أعلن بوتين في خطابه الأخير أمام مجلس الدوما (البرلمان الروسي) عن امتلاك روسيا أسلحة صاروخية لا مثيل لها في العالم. الأمر الذي يجعل يد روسيا هي العليا أوروبياً من دون تحالف أوروبي قوي مع أمريكا. وقد برزت بوادر هذا التوجه حين أسرعت أوروبا في سحب دبلوماسيين روس، كما بادرت بريطانيا وأمريكا بسبب قضية الجاسوس الروسي المزدوج سيرغي سكريبال. وتعززت هذه البوادر في مشاركة بريطانيا وفرنسا لأمريكا في العدوان على سوريا. وكانت روسيا هي الهدف الأمريكي الأول من ورائه.
ولكن دونالد ترامب لم يلتقط هاتين البادرتين بعد برود أمريكي- أوروبي بسبب موقفه من قضية المناخ، ومن إعادة التعرفة الجمركية، كما الموقف من قراره المتفرد بموضوع القدس ونقل السفارة إليها، وإنما استمر الإصرار على تبني ما نشأ من تناقضات مع أوروبا بسبب تلك السياسات، ولم يسع لإعادة ترميم التحالف الغربي، بل ضرب بعرض الحائط كل المناشدات الأوروبية الأخيرة، ولا سيما البريطانية والإلمانية والفرنسية بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي، ومن ثم آثر أن يفرض على أوروبا سياسة الرضوخ، وبصورة فظة، تجبر حتى المتهالك للتحالف مع أمريكا إلى حد التبعية، بمعارضته في الموقف من الاتفاق النووي الإيراني. فالرجل لا يريد أن يأخذ ويعطي مع أوروبا، الأمر الذي فرض على أوروبا أن تعارضه في الموضوع النووي، ولو حتى الآن، ويفرض عليها أن تواصل هذه المعارضة بعد "حتى الآن"، ولو بشق النفس؛ لأن السبب الاستراتيجي الآخر الذي هو الخوف من روسيا سيظل يشدها شداً إلى التمسك بالتحالف مع أمريكا والسعي له.
ولهذا يجب أن يُتوقع استمرار الموقف الأوروبي من النووي الإيراني لوجاهة السبب الاستراتيجي الذي دفع إليه، كما لا بد من أن يظل احتمال التراجع عنه قائماً لوجاهة السبب الاستراتيجي الآخر (الخوف من روسيا.(
وسوم: العدد 776