انسحاب إيران نحو العمق السوري ضمانة لوجودها الدائم
لا يمكن لإيران القبول بالتراجع عن المكاسب التي حققتها، والعودة إلى ذات النفوذ والتأثير في مرحلة ما قبل عام 2011، وستحتفظ طهران مستقبلا بوجود عسكري لها في العمق السوري، بعيدا عن الحدود الإسرائيلية، ونفوذ واسع في مركز القرار، من خلال حلفاء لها في العملية السياسية المنتظرة، بعد إقرار التسوية الأممية برعاية روسية تركية، وإيرانية أيضا.
ومنذ بدايات عام 2012، تدخلت إيران بشكل مباشر من خلال إرسال مئات المستشارين العسكريين من الحرس الثوري إلى سوريا، للمشاركة في تقديم الاستشارات ووضع الخطط لقتال المعارضة المسلحة، إلى جانب الإشراف على عشرات المجموعات الشيعية المسلحة، وقيادتها، وتقديم الدعم في مجالات التدريب والاستشارة والتسليح، للقتال إلى جانب قوات النظام ومنع سقوطه والحفاظ على وجود ثابت يؤمّن لها تقديم الدعم للقوات الحليفة، لضمان مصالح طهران في سوريا ولبنان، وصولا إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي العراقية.
لا توجد إحصاءات رسمية أو تقارير تشير إلى عدد العسكريين الإيرانيين في سوريا، لكن وسائل إعلام تتحدث عن نحو 2000 مستشار وأكثر من 9 آلاف مقاتل في مجموعتي "فاطميون" المشكلة من شيعة أفغانستان، و"زينبيون" المشكلة من شيعة باكستان، إلى جانب 7 آلاف مقاتل من حزب الله اللبناني، وأعداد غير معروفة من مجموعات شيعية عراقية تنتمي إلى "الحشد الشعبي"، منها "النجباء" و"حزب الله العراقي" و"لواء أبو الفضل العباس" و"عصائب أهل الحق".
وقد زاد ذلك التواجد من تعقيد الصراع السوري، خصوصا بعد التدخلات الإسرائيلية المتكررة باستهداف مواقع إيرانية سورية مشتركة، وظهور محور مناهض لإيران تقوده الولايات المتحدة يضم تل أبيب ودول عربية أبرزها السعودية.
خلقت هذه الأجواء الجديدة والمتغيرات في معادلة الصراع ضغوطا على روسيا، ودفعتها إلى خلق موازنات جديدة بين إيران ووجودها في سوريا من جهة، وتداعيات هذا الوجود سواء على الموقف الأمريكي منه، أو الاستهداف الإسرائيلي وتصاعد حدة التوترات، بما يقود إلى احتمالات مواجهة عسكرية مفتوحة بين إيران وإسرائيل على الأراضي السورية.
* تطور الموقف الإسرائيلي
ومنذ التدخل العسكري الروسي المباشر في الحرب الأهلية السورية، أصبحت إسرائيل أكثر اهتماما بشكل خطوطها الحمراء لحماية أمنها القومي قيد التنفيذ، من خلال تدمير كل ما من شأنه أن يشكل موطئ قدم لشن هجمات على حدودها أو عمقها، انطلاقا من مواقع وقواعد إيرانية، أو لقوات حليفة لإيران.
نالت الحدود الجنوبية في الآونة الأخيرة اهتماما إسرائيليا متزايدا، عكسته تحركات لكبار المسؤولين نحو الولايات المتحدة وروسيا لتقرير مستقبل الوجود الإيراني في المنطقة، في ضوء التطورات المتمثلة بانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع طهران، وتصاعد وتيرة ضربات تل أبيب في سوريا، ولهجة التصريحات العدائية بين الجانبين.
ففي 10 أيار / مايو 2018، وقعت المواجهة العسكرية الأولى المباشرة بين إسرائيل وإيران على الأراضي السورية بعد سنوات طويلة من التهديدات المتبادلة، بإطلاق إيران طائرة دون طيار تحمل ذخيرة متفجرة نجحت في اختراق الحدود الإسرائيلية، وتخطي الدفاعات الجوية المتقدمة، قبل أن يتم إسقاطها، لترد تل أبيب بضربات جوية لعشرات الأهداف، أبرزها مقر القيادة الإيرانية في مطار "التيفور" (وسط) الذي تم توجيه الطائرة المسيرة منه.
لم تتحرك القوات الروسية ودفاعاتها الجوية ضد الغارات الإسرائيلية، في محاولة منها للحد من التصعيد، استجابة لاتفاقات رسمية وتفاهمات مشتركة مع الولايات المتحدة والأردن وإسرائيل.
وقعت الولايات المتحدة وروسيا والأردن في يوليو / تموز 2017 اتفاقا رسميا لوقف إطلاق النار في الجنوب السوري "بين القوات الحكومية وقوات المعارضة المسلحة يشمل مناطق درعا والقنيطرة والسويداء"، وينص الاتفاق حول الجنوب السوري على "انسحاب القوات الإيرانية المساندة للقوات الحكومية السورية في المنطقة وانتقالها إلى العمق السوري بعيدا من الحدود الجنوبية للبلاد".
لا يتوقف القلق الإسرائيلي على التواجد الإيراني على حدودها في جنوب سوريا، بل يتعدى ذلك إلى الخشية من مواصلة إيران استراتيجياتها في توسيع الممرات البرية إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وترسخ نفوذها في المنطقة من خلال قوات النظام والمليشيات الحليفة لها.
* أحداث الجنوب السوري
وفي 17 يونيو / حزيران 2018، بدأت قوات النظام بدعم روسي مباشر، بشن عملية عسكرية واسعة النطاق في جنوب سوريا، على غرار العملية التي شهدتها الغوطة الشرقية في ريف العاصمة دمشق، وانتهت في أبريل / نيسان 2018 بالسيطرة على المنطقة بشكل كامل، بعد اتفاق مع المعارضة المسلحة على تسليم الأخيرة أسلحتها ومغادرة عناصرها إلى الشمال.
وتندرج العملية العسكرية في الجنوب ضمن استراتيجية استعادة جميع الأراضي التي خرجت عن السيطرة بعد عام 2011، ومنذ نهاية معركة حلب وسيطرة قواته عليها في ديسمبر / كانون الأول 2016، سيطر النظام على أجزاء واسعة بوتيرة متصاعدة، سواء من خلال العمليات القتالية أو الهدن والمصالحات المناطقية.
من دون إعلان صريح من أي طرف، ثمة مقايضة رعتها روسيا بإزاحة القوات الإيرانية والحليفة لها من المناطق الحدودية، مقابل عدم قيام إسرائيل بمهاجمة قوات النظام أو استمرار استهداف مواقعه ومواقع مشتركة مع القوات الإيرانية التي تم استهدافها عشرات المرات، وتوقفت بالفعل مع انطلاق معركة درعا في 17 يونيو / حزيران 2018 حتى ساعة متأخرة من ليلة 8 يوليو / تموز، عندما أعلنت الحكومة السورية أن مطار التيفور تعرض لغارات إسرائيلية.
يبدو أن تل أبيب تأكدت من مشاركة قوات إيرانية ومجموعات شيعية مسلحة فعلا في القتال إلى جانب قوات النظام جنوب غربي سوريا، بعد إعلان وسائل إعلام في 3 يوليو / تموز، مقتل اللواء "خليل تختي نجاد"، قائد غرفة عمليات الحرس الثوري في محافظة درعا.
وتشير معلومات أن طهران زجت بأعداد كبيرة من مقاتلي القوات الحليفة لها سواء من مستشاري الحرس الثوري أو مقاتلي حزب الله، أو المجموعات الشيعية المسلحة الأخرى في المعركة، من خلال دمجهم فيها بزي القوات النظامية.
في كل الأحوال، تسعى إيران من خلال قتالها إلى بقاء نظام الرئيس بشار الأسد تحت سيطرتها، بما يؤمّن لها طريق التواصل عبر الممرات البرية إلى المتوسط، لتسهيل وصول الإمدادات ونقل الأسلحة والذخيرة وتعزيز أعداد مقاتلي القوات الحليفة لها في سوريا ولبنان، ويصطدم هذا السعي لتحقيق المصالح الإيرانية بموقف روسي يريد الاستفراد بسوريا دون منافس قوي على الأرض، إلى جانب الرفض الإسرائيلي الثابت لمثل هذا الوجود.
وسوم: العدد 780