شرنقة العصور الوسطي

في سياق الحرب الهمجية على الإسلام التي يشنها الغرب ووكلاؤه العرب، يبرز مصطلح العصور الوسطى في الكتابات المهاجمة ليوحي بتخلف الإسلام وظلاميته، وربطه بالكنيسة الغربية وممارساتها المعادية للإنسانية. والعصور الوسطى أو القرون الوسطى في الغرب تشمل الفترة الممتدة من القرن الخامس حتّى القرن الخامس عشر الميلادي، بدأت مع انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية واستمرّت حتى عصر النهضة والكشوف الجغرافية. ويحددها المؤرخون من سنة 476 م إلى سنة 1492م.

وشهدت هذه الفترة في الشرق إشراق الإسلام وانتشاره وتحرير الإنسان من العبودية والقهر وجبروت الطغيان في كثير من مناطق النفوذ الكنسي والوثني، وصد الحملات الصليبية الهمجية، والتترية الوحشية، كما عرفت إنتاجا علميا وفكريا وثقافيا للحضارة الإسلامية غير مسبوق، وهو ما أثر على الفكر الغربي وكان سببا رئيسيا من أسباب الثورة على الكنيسة والنظام الإقطاعي، وأنتج ما عرف بعد ذلك بالثورة البروتستانتية و(مارتن لوثر) ونظرية العقد الاجتماعي.

يتخذ خصوم الإسلام في هجومهم عليه ذريعة العصور الوسطى، ليخاطبوا المسلمين بالخروج من شرنقتها، والانتقال إلى العصر الراهن بما يسمى تجديد الخطاب الديني، ويقصدون تغيير ثوابت الإسلام: فصل الإسلام عن الحياة، مساواة المرأة بالرجل في الميراث، نزع الحجاب، تحليل الربا والخمر، إلغاء الجهاد والاستسلام للعدو، تحويل الزواج الشرعي إلى زواج مدني يسمح للمسلمة الزواج بغير المسلم، تأليه الحكام الطغاة والفاسدين وتشبيههم بالأنبياء والمرسلين، وتحريم معارضتهم وانتقادهم..

في أوائل أغسطس 2018 حذر سلفي جامي مدخلي من أي نصيحة قد تدفع الناس للخروج على الحاكم حتى لو كان زانيا وشارب خمر على الهواء، ثم ظهر بعده بوم واحد سلفي آخر يتحدث عن ضرورة  طاعة الحاكم “الزاني وشارب الخمر”.  

تأتي مثل هذه الآراء المنحرفة الشاذة في إطار الحملة الضارية من إعلام السلطات القمعية الإرهابية في بعض العواصم العربية لتغيير الإسلام وثوابته تحت دعوي تجديد الخطاب الديني أي الإسلامي. والحق أن هذه الدعوي ليست بنت اليوم ولا وليدة الانقلابات العسكرية، ولكنها تخطيط همجي متعصب تنفذه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني منذ عقود، ويتضمن هذا التخطيط ما عرف بتجفيف المنابع الإسلامية، ومصادرة الأدوات المؤثرة في التعريف بالإسلام، ولعل أبرز الجهود في هذا التخطيط كانت وثيقة رجل المخابرات الأميركي جورج ميتشيل التي نشرت بعد توقيع اتفاقيتي الإذعان في كامب ديفيد عام 1979م وسميت بوثيقة تجفيف المنابع، ومع أن القوم نفوا صدور الوثيقة إلا إن وزارات التعليم والمعارف في معظم الدول العربية راحت تنقي مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية على هشاشتها من كل ما يزعج أميركا والعدو. 

ومع مطلع الألفية الجديدة  أنشأت الخارجية الأمريكية ما يسمى «لجنة تطوير الخطاب الديني(الإسلامي) في الدول العربية والإسلامية»، وأعلنت أن المساعدات الأمريكية لهذه الدول سوف تكون مرهونة بتنفيذ توصيات اللجنة المذكورة. وقد تعددت عناصر تنفيذ تجديد الخطاب الديني الإسلامي- فقام مسئولون كبار بالأمر، وتولت النخب الاستعمالية من المثقفين والإعلاميين وفقهاء السلطة ووعاظ الشرطة المهمة، وفي زخم الحديث عن التجديد انضم نفر من الطائفيين المتعصبين للموضوع، وكان الإرهاب الذريعة المهيّجة لاستمرار الكلام في مسألة تجديد الخطاب والإلحاح عليه.

لم يعد خافيا الآن أن الجماعات أو المنظمات التي تسمى إرهابية هي صناعة غربية استخباراتية تشارك فيها بعض الأنظمة، وصار أمرا عاديا أن نسمع عن اتفاقات تتعلق بالقتال في هذه المنطقة أو تلك بين التنظيمات الإرهابية والحكومات العربية والغربية بما فيها الولايات المتحدة، وقد أوضح شيئا من ذلك الكاتب عاطف الغمري في مقال له بالمصري اليوم٢٤/ ٧/ ٢٠١٨ حول وثيقة للبنتاجون (وزارة الدفاع الأميركية)، فقد أشار أولا إلى إجابة برجينسكى مستشار الأمن القومي الأسبق، في جلسة لمجلس الشيوخ، عن رأيه في الحرب على الإرهاب، فقال الحرب على الإرهاب محاطة تاريخيا بالغموض. وهي إجابة تضيف غموضا إلى الغموض في سياسة أميركا  الخارجية التي تقول شيئا، وتفعل شيئا آخر. وأشار ثانيا أن الوثيقة التي نشرت بكتاب "الحرب والقرار" لدوجلاس فايت؛ مساعد وزير الدفاع السابق تنص صراحة على أن المؤسسة العسكرية الأمريكية ليست مهتمة بالإرهاب، بل إن هدفها هو عزل وإضعاف دول المنطقة، وتدمير قدراتها العسكرية، وهو توجه يقوى شوكة الإرهاب بدلا من أن يضعفه".

إذا كان مسئول كبير في دولة مسلمة يطالب بمساواة الرجل والمرأة في الميراث علنا وعلى رءوس الأشهاد، مع علمه جيدا أن ذلك مخالف لنص قرأني صريح، ثم يشكل لجنه لتغيير ثوابت الإسلام تحت عنوان مراوغ، وآخر يدعو إلى تجديد الخطاب متهما الإسلام بالعدوانية وتبني الحرب ضد العالم، وثالث يستدعي تجربة أتاتورك الفاشلة تجديدا للخطاب الديني، فمعنى ذلك أن الأمة تمضي إلى حتفها، بترك دينها، والعيش في ذيل القوي الصليبية الهمجية، حيث ينتظرها مستقبل غامض محفوف بالمزيد من المكاره!

وتلعب النخب الاستعمالية وما يشبهها الدور المباشر في تشويه الإسلام واتهامه بما ليس فيه، والادعاء عليه بدعاوى باطلة، دون أن يتاح لعلماء الدين والمتخصصين الرد، أو التعليق. خذ مثلا اتهام القرآن الكريم بأنه يريد بلشفة الناس، وأنه لا يقر ولا يعترف بوجود غير المسلم، وأنه يطالب أتباعه بأن يرفضوا وجود غير المسلمين، بينما الآيات الكريمة تؤكد على اختلاف الناس، وتحث على التعامل مع خلق الله جميعا مالم يكونوا  محاربين أو معتدين أو محتلين.

ثم تأمل التدخل الطائفي الظالم في المسألة واقرأ ما كتبه بعضهم عن ضرورة تجديد الخطاب الإسلامي متهما علماء الدين وخطباء المساجد بأنهم لا يقبلون الآخر، ويدعون للتمييز الطائفي وينشرون الخرافات والأساطير، وكأن الإسلام اسطورة وخرافة، وأنه يعبر عن نفسه جيدا في بلاده، بينما وزير الأوقاف يصوغ خطبة أسبوعية موحدة لا يخرج عنها الأئمة جميعا. 

أو ما كتبوه ويكتبونه حول ضرورة إلغاء الإسلام من الحياة والمجتمع بدعوى فصل الدين عن الدولة، والخروج من شرنقة العصور الوسطى.. أليس من الأفضل أن يتفرغوا لتجديد الخطاب الطائفي، ويحلوا مشكلات الطلاق والزواج وتحرير الروح بعد الموت التي يملكها شخص لا يملك من أمره شيئا؟

هل هانت مصر والعرب والإسلام إلى هذا الحد؟

الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

وسوم: العدد 792