صراع الهوامش والمتون

أمريكا تتغير، روسيا تعود للمشهد، أوروبا تتفكك، زلازل سياسية في أمريكا اللاتينية، براكين الشرق الأوسط تتفجر، والفوضى الدينية والسياسية تضرب الخيام المنتشرة في جزيرة العرب.

العالم يذهب سريعاً في اتجاهات يمين اليمين، وفي مقابل رجال «القاعدة» و»داعش» هناك زعماء الشعبوية واليمين المسيحي المتطرف، وفي واشنطن رجل اسمه دونالد ترامب يخطب في الجمهور: «أنا قومي»، وفي البرازيل يفوز بول بولسينارو، النسخة اللاتينية من ترامب، فيما يُتوج بنيامين نتنياهو ملكاً توراتياً لإسرائيل، مدعوماً بـ»إسرائيل بيتنا» و»البيت اليهودي» و»يهوديت هاتوراة»، وبقية عصابة اليمين الديني هناك، من دون أن ننسى نجوماً آخرين مثل: نايجل فاراج ومارين لوبان وخيرت فيلدرز.

ماذا يجري للعالم إذن؟

إنه الظلم، إنه غياب العدالة العالمية، إنه الفقر، إنه تراجع مستويات التعليم، إنها العولمة، إنه اليأس من إصلاح المنظومة، الخلل في الموازين الاقتصادية، الملل من البيروقراطية، الضجر من قيم ما بعد الحرب، الاندفاع لأخذ الحقوق، التي تلتبس بالجشع والعدوان والفوضى والكراهية والتقوقع الديني والقومي، إنه بالضبط تَشَبُّه أنسال اليهود الناجين من المحرقة بالنازيين، وتناسي فظائع الحرب، والثورة ضد المؤسسة، ضد النظام الدولي الذي تمخضت عنه الأمم المتحدة، على أنقاض «عصبة الأمم» التي فشلت في منع الحرب. كانت الحرب العالمية الثانية رجة عنيفة لم تغير حدود الخرائط وحسب، ولكنها كسرت حدود المفاهيم والأفكار والفلسفات، ومال الغرب بعدها إلى تكريس أفكار مناهضة للأفكار التي سادت قبل الحرب، وتوارت فلسفات هايدغر ونيتشه التي أفرزت هتلر، ونال ماركس وإنغلز زخماً كبيراً، امتد إلى معاقل الرأسمالية في بريطانيا وأمريكا، وتشكلت أرضية مناهضة للحرب التي اندلعت قرابة منتصف القرن الماضي، وتطورت مفاهيم الديمقراطية والاشتراكية، ودولة الرفاه، وحقوق الإنسان، وأعطيت اعتبارات كبيرة لقيم الحرية والعدالة ومكافحة العنصرية، وانحسرت النزعات الدينية المرتبطة بشكل وثيق بالاتجاهات القومية، وتم التبشير بدين جديد هو الليبرالية، المرتبطة بالرأسمالية، وانتشرت أفكار اشتراكية مرتبطة بالماركسية، وبشّر الشيوعيون بانتصارهم، ووعدوا أتباعهم بـ»جنة الإنسان»، التي ستعوض توق البشر الدائم إلى «جنة الله».

وظلت الموجات المرتدة عن الحرب تتجاوب في الفترة التي تلتها، وظل العالم يضع يده على قلبه خوفاً من الحرب، وظل حذِراً من الأفكار التي أنتجتها، فأدان وجرّم النازية والفاشية وكل أشكال العنصرية واللاسامية. وفي فترة ما بعد الحرب طوّر المعسكران رؤيتين مختلفتين لعالم ما بعد الحرب، وتحوّلت الحرب الساخنة إلى حرب باردة استمرت لعقود بين معسكرين أو رؤيتين مختلفتين، واستمر الوضع إلى 1991 ، لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي ، الذي «انتهى التاريخ» بسقوطه، وعمّت الفرحة بتغلب النموذج الليبرالي الغربي، وسيادة منظومة القيم المرتبطة بالرؤية الاقتصادية الرأسمالية، وانفتاح السوق. ومع انهيار المعسكر السوفييتي روَّجت دوائر غربية وأمريكية لفكرة العولمة، و»القرية الكونية»، والقطب الواحد و»نهاية التاريخ»، وجاءت العولمة.

وخلال سنوات ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي اندلعت حروب وثورات وحدثت هزات اقتصادية وسياسية، بذرت الشك في سلامة التوجهات العولمية التي قادتها الرأسمالية العالمية، في ثقة بأنها فتحت الحدود بالاقتصاد بدلاً من عبورها بالجيوش، لكن هذه العولمة تكشفت عن وجه بشع من أوجه الاحتكار الرأسمالي والكولونيالية الجديدة، واكتشف الذين هللوا لانهيار الاتحاد السوفييتي أنه كان عامل توازن، وأنه منع التغول الرأسمالي لعقود طويلة، وعادوا يدعون إلى عالم متعدد الأقطاب، وسط تململ من سطوة الولايات المتحدة مالياً وعسكرياً.

ومع تلاحق الأزمات الاقتصادية، واندلاعها في القطاعات المصرفية والعقارية، تحول كثير من الاقتصادات إلى علب كبريت هشة، وضرب التسونامي المالي في 2008، وأغلقت- على الإثر- المصانع، وبحثت الشركات عن بلاد أخرى، وهاجرت الأموال، ونشطت عمليات غسيل المال، وانتعشت التجارة السوداء، ومع المزيد من الخلل الاقتصادي والخراب السياسي، والحروب المندلعة، زادت وتيرة الهجرة، واندفع الملايين صوب الضفة الشمالية للمتوسط، واستعرت مشاعر الكراهية والتقوقع القومي، والعنصرية ضد المهاجرين. وولّد الإحساس بالخلل في الميزان الاقتصادي العالمي، والسطوة الباطشة للعولمة، والشعور بالتهميش، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، كل ذلك ولد نوعاً من الشعور بالثورة، والحقد على مراكز السلطة والثروة على المستوى العالمي، وداخل الدولة الوطنية.

وما أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في جانب من جوانبها، إلا ردة فعل عنيفة على تحكم المركز الدولي الاقتصادي في مقدرات العالم، والأمر ذاته على المستوى الوطني، داخل كل دولة، حيث نظرت الأطراف إلى المراكز بأنها تحتكر المال والأعمال، فبدأت الزحف عليها، الأمر الذي تجلى أثره في ظاهرتين: الأولى «الربيع العربي»، في بعض البلدان العربية، الذي يعد، في جانب منه، ثورة الهامش على المركز، والثانية: موجة الشعبوية الجديدة التي أطاحت بمراكز المؤسسة في بلدان مختلفة في أوروبا وأمريكا. لقد أدى تصحر الريف- الناتج عن إهمال العاصمة له- إلى زحف أبنائه إلى المدن والعواصم، هرباً من ظروف الحياة القاسية، في بلدان بعينها، الأمر الذي هيأ في تلك البلدان- وهي في معظمها عربية- لاحتكاكات مستمرة بين الغالبية الشعبوية الفقيرة والنخبة السلطوية، التي ينظر لها على أساس أنها تمثل الشرائح الغنية التي أثرت بالفساد ومصادرة موارد البلاد، وإفقار الشرائح الأخرى، الأمر الذي فجّر موجة الربيع العربي الحارق.

وفي الغرب أخذ الانفجار شكلاً سياسياً بأبعاد اجتماعية، حيث تأطرت الحركات الشعبوية الناقمة على المركز والمؤسسة في توجهات سياسية، أوصلت مرشحيها إلى السلطة، في كثير من البلدان الأوروبية مثل المجر والنمسا وبولندا وإيطاليا، وتنامت حركات اليمين الشعبوي في ألمانيا، ودخل حزب البديل الألماني مبنى البوندستاغ، وتضعضع تحالف أنغيلا ميركل المسيحي، وأعلنت المستشارة عزمها اعتزال العمل السياسي بحلول عام 2021، وهو ما عده مراقبون خطوة مهمة تجاه تأبين الاتحاد الأوروبي، كمؤسسة مرفوضة شعبوياً، خاصة بعد مضي بريطانيا قدماً لإنجاز «البريكست» العام المقبل.

وفي المحصلة فإن التوجهات اليمينية والقومية الشعبوية تزحف على العالم، كرد فعل للعولمة التي كانت- بدورها- ردة فعل مبالغاً فيها على انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث عاد الناس ليتذكروا أن لهم هويات قومية ودينية يجب الرجوع إليها، وعادت أوروبا تحديدا بهيئة أشبه ما تكون بصورتها عشية الحرب العالمية الثانية. المخيف في أمر تلك الموجات الشعبوية أنها غالباً مقبلة من الأرياف أو المناطق الأقل تعليماً، والأقل نمواً اقتصادياً، والمخيف أن القائمين عليها وجمهورها لم يعش فترة ما قبل الحرب الثانية، ليلحظ أنه يعيد التجارب التي أنتجت الحرب، كما أن الجيل الذي اكتوى بالحرب قد تصرمت سنواته، ولم يعد في الإمكان تذكير الأجيال الجديدة بحكمة الأجيال التي عاصرت الحرب.

يبدو أن التقوقع على الهويتين القومية والدينية سوف يكون سمة المرحلة، حيث تتعاضد الهويتان في الأنساغ الاجتماعية في أكثر من مكان في العالم، والهويتان هما مهاد الأرضية التي يمكن أن تنطلق منها الحروب والنزاعات، خاصة أن هناك قادة شعبويين وصلوا إلى مناصب الرجل الأول، مثل فيكتور أوربان في المجر، الذي قال إنه لا ينظر إلى «هؤلاء الناس كلاجئين مسلمين ولكن كغزاة مسلمين»!، وبنيامين نتنياهو الذي يجد دعماً كبيراً من اليمين الإسرائيلي المتطرف، والأحزاب الدينية، في ظل تراجع وتشرذم حزب العمل، وحركات اليسار الإسرائيلية.

لو تصورنا خريطة العالم على شكل صفحة كتاب، فإن الهوامش اللامنطقية لتلك الصفحة بدأت الزحف على المنطق المتهاوي للمتون المهترئة، حيث تجري عمليات متسقة لجعل تلك الهوامش متوناً شعبوية، بينما يتم العمل على تهميش المتون التقليدية، في دورة من دورات الصراع بين الهوامش والمتون في تلك الصفحة من كتاب العالم المليء بالصراعات التي لا تنتهي.

وسوم: العدد 798