أسئلةُ الصّلاح الدَّنيوي بين الغربيين والمسلمين!
▪لا يزال كثير من المسلمين يتعاملون مع نصوص الوحي وحقائق الوقائع بانتقائية وانفعالية، حيث يبتعدون عن التفكير العقلاني الصارم ويتجنّبون التفكير الموضوعي المنصف، وبناء على ذلك فإنهم لا يزالون يَحتكرون الصلاح الدنيوي للمسلمين كاحتكارهم للصلاح الأخروي، وذلك في الأذهان المنفصلة عن الواقع، مما دفعهم لإنكار التفوق الحضاري للغرب وممارسة نوع من التسامي، وقد زاد هذا الأمر من توسُّع الهُوّة بين المثاليات الإسلامية والأحداث الواقعية في أذهان أكثر المسلمين، بحيث أصبحوا يعانون من انشطار في الذات وانفصام في الشخصية.
▪وفي هذا المقال الذي سبقه مقالات في ذات الموضوع، لن نقوم بوصف ولن نُقدِّم تحليلات للحالة، ولن نبحث عن إجابات لأسئلة التخلف الحضاري، لكننا سنثير عددا من الأسئلة التي قد تساعد من يمارسون التسامي المغشوش في معرفة الحقيقة المؤلمة، وفي إعادة مياه التفكير السّوّي إلى مجاريها العقلية، من خلال إيقاظ خلايا المخ الهامدة وبعث دوافع الوعي بحقيقة التمكين الدنيوي وما يقوم عليه من صلاحٍ في منهج التعامل مع الأسباب المادية والسُّنن الاجتماعية والكونية.
▪لماذا في الحديث عن مشاكلنا المزمنة كمسلمين نذهب نحو استخدام المنهج التبريري الذي ما فتئ يَتذرّع بأن الغرب هو الشيطان الذي يمنعنا من التقدم؟ وهل الغرب بالفعل يمتلك كل تلك القدرات الخارقة التي تجعله بكل شيئ عليم وعلى كل شيئ قدير؟ وإذا كان الغرب بكل تلك القدرات الخارقة بينما المسلمون مجرد رِيشٍ في مَهبّ الرياح أفلا يكون الغرب بذلك أصلح لاستعمار الأرض وَأَمْلَك لمقاليد صناعة الحياة؟! وهل لو حمّلنا الغرب مسؤولية ما يحدث للمسلمين سيغيّر سياساته وسيمد يد العون للمسلمين حتى ينهضوا من سباتهم الحضاري؟!
▪لقد علّمنا القرآن منهج النقد الذاتي في كل إخفاق يقابلنا وفي كل هزيمة نتعرّض لها في طريق التقدم نحو الأمام، وعلى مستوى هذا التخلف المُريع الذي تعاني منه أمّتنا في كافة أوجُه الحياة، ألا يجب أن نتساءل: أين مَحل {قل هو من عند أنفسكم} في تحليلنا لما يحدث لنا من نكبات ونكسات؟ .. وأمام كل هذه المصائب والنوائب التي تَحلّ بشعوب المسلمين أين دور: { فبِمَا كسبتْ أيديكم} في تشخيص الحالة وتقييم الأوضاع؟!
▪ ولقد علِمنا من مصدري الوحي السماوي أن أمّة الإسلام هي خاتمة الأمم، وبناء على ذلك فإنها تمتلك خصائص تتفوّق بها على غيرها حتى تستمر في أداء رسالتها المنوطة بها في القوامة العَقَدية على الثقافات وفي الشهادة الحضارية على الناس، وفي هذا الإطار ألا يحق لنا أن نتساءل: ما مفهوم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بأن لا يُسلّط الله عليهم عدوا من خارجهم يستأصل شأفتهم وأن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا؟ فما معنى أن يجيب الله الدعوة الأولى ولا يستجيب للثانية؟ وما علاقة ذلك بالسُّنن المحايدة والنواميس العادلة؟ وكيف نستثمر هذا المعنى لحَرْث أرضية الأمّة وتخليصها من شوائب الأفهام وقوارض الأعمال؟ وكيف ينبغي أن نقوم بهذا الأمر على الوجه الأمثل والأكمل بحيث تتحقق المصالح دون أن تنتج مفاسد جديدة؟
▪ وعندما يقول بعضنا بأن أمة الإسلام بخير وأنها لا تزال تحاول التقدم إلى الأمام وتجاهد للعروج نحو المعالي، لكن الغرب هو الذي يَحُول دون أي تقدم للأمام ويتسبّب بإفشال كل جهد للعروج الحضاري، فهل يعني ذلك أننا لن نتقدم إلا إذا تغيّّر الغرب؟ وفي ضوء سُنن الله في اصطراع الحق والباطل وتدافع الخير والشر هل ستتغير طبيعة الغرب بالفعل في يوم من الأيام؟ وهل المطلوب الآن حتى نستأنف الإقلاع الحضاري أن نتغير نحن أم يَتغير الغرب؟ بمعنى هل يجب أن نَصُبّ جهودنا لإصلاح أنفسنا حتى نتقدم أم لإصلاح الغرب حتى يبتعد عن الأثرة ويسمح لنا بالتقدّم؟
▪وإذا آمنا بأننا لن نتقدم ما دام الغرب يتآمر علينا، وهو يفعل ذلك بلا شك وسيظل، فهل الحل أن نعلن الحرب الشاملة عليه؟ وكيف نستطيع أن ننجح في هذه الحرب ونحن لا نمتلك أسباب القوة ولا مقومات الوحدة؟ بل كيف سننتصر وأغلبنا يقبعون تحت أثقال العبودية ويعانون من آصار الظلم والتفرقة الاجتماعية بل ويرزحون تحت ويلات الجهل والفقر والمرض؟!
▪لماذا نَسأل دائماً عن أسباب احتلال الغرب لبلدان العالم الإسلامي، رغم أن ذلك غير غريب عليه ذلك أنه عالَم إمبريالي قام منذ مطلع التأريخ على فلسفة التوسع والرؤية الانتقاصية والمعادية للآخر كما في فلسفة الإغريق ومنطق الرومان؟ ولماذا لا نتساءل ما الذي أغرى الغرب بغزونا؟ ولماذا لا نبحث عن الثقوب والفجوات والثغرات التي يتسلل من خلالها إلينا؟ ولماذا لا نُقوّي حصوننا ونرفع أسوارنا؟ ولماذا لا نُقوّي مناعتنا الذاتية حتى نستعصي على جيوش الغزو وقطعان الاجتياح؟! وبمعنى آخر لماذا نضع العربة قبل الحصان؟ وكيف سننجح في محاربة الاستعمار بينما يسقي بعضنا شتائل القابلية له بكل ما يملكون من قوة وطاقة؟!
▪إن الظلم طبيعة سليقية في تركيبة الإنسان الترابي عندما لا يتعرض لنفحات التقوى، وإن الطغيان خصيصة بشرية تظهر في أي مجتمع لا يتعرض لأشعة الوحي السماوي، فكيف نتساءل دائماً ببلاهة لماذا يغزونا الغربيون؟ ولماذا لا نسأل بروح الباحثين: ما الذي أغرى بريطانيا باحتلال مصر وهي أكبر منها مساحة وسكانا؟ وما هي العوامل التي مكّنت بريطانيا من انتزاع الهند من المسلمين المغول؟ وكيف نجحت في احتلالها رغم أنه يوجد مقابل كل إنجليزي عشرون هنديا؟ وكيف نجحت فرنسا في ضم الجزائر تحت لوائها ومساحة الجزائر تزيد عن أربعة أضعاف مساحة فرنسا وكذلك الحال بالنسبة لإيطاليا في ليبيا؟ وكيف تمكّنت بريطانيا من احتلال عدن اليمنية ببضع مئات من جنودها بينما كانت تَعجّ بعشرات الآلاف من اليمنيين ويحيط بها الملايين؟! كيف نجح الفرنسيون في استمالة الآلاف من الصوفيين إلى صفوفهم في المغرب العربي الكبير؟ وكيف استطاع الإنجليز خَلْق فِرَق تنتسب إلى الإسلام في شبه القارة الهندية وإيران مثل البهائية والبابية والقاديانية والتي حوّلت الإسلام إلى أفيون يُخدّر الناس عن إدراك واقعهم والمطالبة بحقوقهم ومواجهة أعدائهم؟
▪تقول الأرقام التي لا تحابي أحدا إن إنتاج الفَدّان الأوروبي من السلع الزراعية يساوي ثلاثة أضعاف إنتاج الفدّان العربي، وأن إنتاج الفدان الأمريكي يساوي أربعة أضعاف إنتاج الفدان العربي، فأين مكمن الخَلَل؟ وهل انحازت الأرض للكفار ضد المسلمين، أم أن سُنن البحث العلمي والتجريب والتطوير هي التي بوّأت الغربيين هذه المكانة؟ وكيف نستفيد من الخبرات التي جعلت الإنتاج الزراعي يزداد سنوياً في الغرب غالباً رغم أن الأرض محدودة ولا تزيد؟!!
وفي الجانب الآخر لماذا نرى زلزالاً في بلد غربي بقوة 7 درجات دون أن يموت أحد أو يموت عدد يسير من الناس، بينما قد نجد زلزالا في بلد إسلامي بقوة 6 درجات يتسبب في قتل آلاف المسلمين؟ هل تمارس الزلازل التحيّز ضد المسلمين أم أن إتقان الغربيين لمبانيهم وقيامهم بكافة الاحتياطات لمواجهة الكوارث هو السبب في هذه النتيجة المختلفة؟
▪لماذا أحرقنا طاقاتنا في ميادين الانفعالات، من خلال التنديد بالكيان الصهيوني الذي انغرس في قلب أمتنا وتَمدّد في فراغاتنا دون أن أي فاعلية حقيقية بل دون أن نلوم أنفسنا على هزيمتنا أمامه، ومن غير أن نقوم بدراسات نقدية لمعرفة مكامن الخلل وأوجُه العَجز؟ لماذا ننشغل بالحديث عن غرس الغرب لهذا الكيان اللقيط في أرضنا ودعمه للبقاء دون أن نتساءل عن كيفية نجاح (إسرائيل) في استزراع كيانها اللقيط وسط غابة من العرب، إذ يوجد قرابة مائة عربي مقابل كل يهودي في فلسطين؟ ولماذا لا نتساءل عن كيفية نجاح هذا الكيان في التوسع على حسابهم جغرافياً واقتصادياً وسياسياً؟ وكيف نجحت إسرائيل في إرساء تجربة نهوض حضاري ابتدأت بإرساء قواعد الديمقراطية من أول يوم حتى أنها لم تشهد انقلابا عسكريا واحدا ولم تسمح لأي زعيم بأن يحصل في أي انتخابات على أكثر من 50% من الأصوات، بينما حصل زعماء النكبات والفساد والظلم على أكثر من 99% من أصوات شعوبهم المغلوبة على أمرها؟ لماذا يتحرك الشارع الإسرائيلي إذا انتُهكت حقوق أدنى مواطن إسرائيلي بينما لا يحرك العرب ساكناً حينما يُقاد خيرة رجالهم إلى المشانق وغُرَف التعذيب أو يَفرون إلى المنافي ويموتون تحت وطأة مشاعر الخذلان والحسرة؟ ما الذي جعل أذلّ أمّة في التأريخ تتحكم برقاب أعظم أمّة تضم في أحضانها عشرات الملايين من أكرم الخَلْق والملايين من الشجعان والمستعدين للشهادة في أي وقت؟ أين يكمن الخَلل وكيف نَسُدّ الخُلَل؟ وما هي الدروس المستفادة؟ وما هي سُبُل الخروج من المتاهات؟ وكيف نقوم بتقويم الاعوجاجات؟
▪لماذا ما زالت الآثار المادية للاستعمار الغربي بعد عقود من الاستقلال للأسف الشديد، هي الأجمل في الجزائر ومصر والسودان وجنوب اليمن؟ ولماذا لم ينجح السودانيون مثلاً في المحافظة على مشروع الجزيرة الزراعي الذي تركته بريطانيا وهو أحد أهم المشاريع الزراعية في العالم ولم ينجح اليمنيون في المحافظة على مشروع دلتا أبين في الجنوب؟ بل ولماذا لم ينجح اليمنيون بعد الاستقلال في إبقاء ميناء عدن الميناء الثاني في العالم كما كان تحت إدارة الإنجليز المحتلين؟!
لماذا ارتفعت نسبة الذين يتكلمون اللغة الفرنسية في الجزائر بعد الاستقلال؟ ولماذا عضّت كثير من التيارات بالنواجذ على المخلّفات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للمستعمر بعد أن حمل عصاه العسكرية ورحل؟ ولماذا كانت الأوضاع المعيشية للعرب أفضل مما حدث بعد الاستقلال في عديد من البلدان كمصر والسودان؟ وما الذي جعل مجاميع عريضة من المسلمين يَحنّون لأيام الاستعمار الذي ثاروا ضده في مصر والسودان والعراق وسوريا وجنوب اليمن كما ظهر في بعض استطلاعات الرأي العام؟
▪هذه الأسئلة وأمثالها عندما تُطرح في سياق البحث الجاد عن الحقائق بكل موضوعية وتجرد، وبدون جلد للذات ومعاناة من مشاعر اليأس، يمكن أن تؤدي إلى اكتشاف نقاط الضعف وثغرات الوهن في حصوننا، أي أنها ستساهم في اكتشاف أسباب السقوط القائم وتكوين عوامل النهوض المنشود بإذن الله، وستساعد في الإجابة العلمية على سؤال: لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم غيرهم،
وآخر سؤال في هذه الباقة هو: لماذا بعد أكثر من قرن من الزمان ما زلنا نسأل سؤال التقدم والتخلف ذاته؟!!
وسوم: العدد 799