لماذا أخرج العراق الخميني من أراضيه؟
استغل الخميني الثورة وركب موجتها وبدأ يتحرك من النجف حيث منفاه الاختياري وأخذ يرسل بأشرطة الكاسيت المليئة بكل أشكال التحريض ضد نظام الشاه، فما كان من الجهات الرسمية العراقية إلا أن تبلغه بالكفّ عن التحريض احتراما لشروط اللجوء السياسي في العراق أو عليه البحث عن منفى آخر، في هذه الأثناء وبعد أن علم الشاه محمد رضا بهلوي بنية الحكومة العراقية إخراج الخميني من أراضيه، بعث بزوجته فرح ديبا في محاولة لإقناع السلطات العراقية بعدم تسفيره وذلك لأن وجود الخميني في العراق أضمن للسيطرة عليه، أما في حال خروجه فإنه سيواصل التحريض من دون سيطرة عليه والتحكم بسلوكه من أية جهة أخرى وهذا ما لا يمكن التكهن بنتائجه.
اليوم وبعد كل هذه السنوات التي انقضت على عودة الخميني إلى إيران ووصوله إلى السلطة محملا بكل خزين الكراهية والحقد على العراق خاصة والعرب عموما وسيل الدماء الغزيرة التي فجرها في المنطقة والعالم، من حقنا بل ومن واجبنا أن نتساءل كيف تم اتخاذ قرار إعادة كتلة الحقد والكراهية المتمثلة بالخميني إلى إيران ليقود من هناك كل ما تحت يده من مال وسلطة ورعاع من الأتباع ليعبثوا بأمن العالم كله حيثما استطاعوا الوصول إليه من بلدان على مساحة الأرض كلها؟!.
نستطيع الجزم بأن الشعور بالقوة الذي كان العراق يستشعره بنفسه أوقعه في خطأ الحسابات الاستراتيجية لأن البعث عموما وصدام حسين خصوصا لم يكنا في أي وقت من الأوقات ليفكرا بطريقة طائفية أو يبنيا مواقفهما على أساسها على خلاف كل ما تزعمه أبواق الخصوم والإعداء وخاصة من جلبهم المحتلون ليتحكموا بالعراق العربي، بل إن بعض مراقبي أحداث المنطقة يقولون إن خطأ صدام حسين الوحيد في حياته السياسية ولا شيء سواه هو ترحيل الخميني إلى إيران، ولو أن صدام حسين كان كما يتهمه خصومه كان جزارا لقتل الخميني في رمشة عين ثم علق دمه على رقبة الشاه الذي استمات في عدم ترحيله منذ أن شعر بخطره على إيران وعرشه الشاه نفسه كان قد قتل مصطفى ابن الخميني بعد أن أرسل عملاء من السافاك إلى النجف، ولكن إنسانية صدام حسين وتعامله مع كل المكونات بروح المسؤولية واخلاقيات العمل الوطني جعلته يتعامل مع قضية الخميني وسائر معممي النجف بطريقة رجل الدولة.
على العموم كانت النشأة الخالية من عقد الطائفية وتداعياتها التي عاشها صدام حسين، وسموّه فوق هذه النعرات التي طفت على السطح بعد التغول الإيراني في العراق كما تطفو الحيوانات النافقة فوق سطح الماء، كانت أهم سبب في عدم تشخيص الظاهرة الشيعية وأخطارها على المجتمعات المتسامحة في البلاد العربية، فقد تحولت الساحات العربية بعد وصول الخميني المشؤوم إلى السلطة في إيران، إلى مسرح صراع ديني وطائفي لم يكن معروفا قبل سقوط الشاه عام 1979، ولو أن الرئيس البكر ونائبه صدام حسين كانا يعرفان أن الخميني يحمل كل هذا الموروث من أحقاد الماضي وعقد الحاضر، لما أقدما على منح عدوهما هذا السلاح الفتاك ثم لينظرا كيف يجربه ضد بلدهما أولا ثم ضد الأمة العربية والعالم الإسلامي بل والعالم كله، وماذا كان سيفعل بهذا السلاح وما إذا كان يحسن استخدمه ضد العراق، ويبدو أن القيادة العراقية التي تمتلك بعد نظر كبير في قراءة الملفات الدولية أغفلت حقيقة خطيرة وهي أن إيران تستطيع تحريك ملف التشيّع واستخدام مزاعم حب آل البيت لكسب السذج والبسطاء من الناس، يضاف إلى ذلك أن إيران بلد ينطوي على إمكانات مادية كبيرة من خلال خزينها النفطي والغازي وتسخير المداخيل المترتبة عليهما لخدمة انتشار مذهبها الذي تدعو إليه بين الفقراء والبسطاء والسذج والمغفلين، وهذا ما تحقق على نطاق واسع.
أما العراق فمن خلال فكره القومي الخالص، فلا يمتلك أدنى تأثير على الداخل الإيراني الذي يتكون من عدة قوميات وتفرض على المجتمع الثقافة الفارسية المليئة بالحقد التاريخي على العرب الذين قوضوا إمبراطورتيهم في القادسية، لا شيء لدى العراق ليوظفه ضد إيران إن أراد ذلك غير ملف العرب في إقليم الأحواز انطلاقا من فكره القومي، إلا أننا يجب أن نعترف بشجاعة أن هذا الملف لم يعط أدنى نتيجة للعراق، وقد تأكد ذلك خلال الحرب العراقية الإيرانية إذ أن كثيرا من عرب الأحواز تراصفوا مع المذهب ولم يسمعوا لنداء الفكر القومي، حتى أنهم حاربوا العراق ضمن الحرس الثوري أو الجيش بقوة إلى جانب إيران خلال الحرب، كما أننا في قراءة قرار طرد الخميني علينا ألا نهمل أن القيادة العراقية لم تكن برأس واحد، فوجود الرئيس أحمد حسن البكر رحمه الله كان جزء من حيثيات اتخاذ قرار على هذا القدر من الخطورة الاستراتيجية.
وفي هذا المشهد مفارقة سياسية كبيرة، فمن المعروف أن الدول تطالب عادة بتسليمها معارضيها أو إخراجهم من البلدان المجاورة لها من أجل حصر تأثيرات أنشطتهم على أمنها الداخلي، ولكن الصورة مع الخميني اختلفت في هذا المقطع أيضا كما كان استثناء من كل المعادلات السياسية المتعارف عليها في العلاقات بين الدول، وهنا علينا أن نستذكر ما حصل مع إيران الخميني بالذات عندما عرضت على العراق تسليمه كل المعارضين المقيمين فوق أراضيها من القيادات الشيعية التي باتت تحكم العراق بعد الاحتلال الأمريكي، مقابل تسليم عناصر مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة ولكن العراق والتزاما بقيمه الإنسانية وبما تمليه قواعد القانون الدولي الإنساني رفض ذلك بقوة وإصرار، ومع أن هذا التصرف لا وجود له في العلاقات بين الدول لأنه قد يبدو من بقايا القيم العشائرية وليس من سلوك الدول، وحينذاك فإن إخراج الخميني من العراق على الرغم من طلب الشاه شخصيا سيبدو مفارقة لافتة أو محزنة على حد سواء، وأن المعايير المعتمدة في كلا الأمرين كان مزاجا سياسيا أكثر مما هو التزام بقواعد القانون الدولي، ولكن خطوة العراق كانت خطوة حضارية وحصيلة الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني.
ما زالت المنطقة والعالم يدفعان ثمن أخطاء العراق في هذه النقطة بالذات، أي في عدم تصفية الخميني كما كان يجب أن يحصل مهما كان الأمر، فالعراق متهم بأنه يعتمد أقسى الإجراءات ضد خصومه السياسيين، والخميني لم يكن معروفا بعد والشاه نفسه هو الذي طالب باحتجازه، ثم إن تواطؤا دوليا من الشرق والغرب ومن القريب والبعيد أراد إيقاع العراق بفخ الفتنة التي ما كان لها أن تبقى داخل حدوده، على شكل اضطرابات وفوضى بسبب تفعيل شعار تصدير الثورة، ذلك أن التيارات الدينية وخاصة في المذهب الجعفري الاثنى عشري الذي يعتمد مبدأ التقليد ويلزم الاتباع باقتفاء خطوات المراجع يمتلك قوة مفزعة ونادرة لتحريك الشارع على وفق مقتضيات مصلحة الحوزة والمرجعية.
هكذا اتخذ قرار طرد الخميني من العراق، وهو القرار الذي ضاعف من حقده على البعث والقيادة العراقية بل والعراق كله، فضلا عما يختزنه من أحقاد على العنصر العربي وتسببه بكل هذه الفوضى وهذا الإرهاب من خلال تشكيل منظمات مسلحة أو شبه مسلحة كانت ترتبط بمكتب حركات التحرر التابع لمكتب الخميني أو أتباعه المقربين! فضلا عن أن خروج الخميني مكنّه من الوصول إلى الحكم وتفريغ أحقاده على العراق واستطاع أن يقيم نظاما يحمل كل الموروث العقائدي والسياسي الحاقدين على العراق، وهو ما جسدته الحرب التي استغرقت ثماني سنوات وهذا عامل إضافي لأحقاد فارسية على العراق والعرب الذين كان الإعلام الإيراني يصرّ على إطلاق اسم "الأعراب" عليهم، وكان يعبر عن ذلك الخزين من الكراهية بشعارات طائفية عن مظلومية أهل البيت والشيعة، غالب الظن أن القيادة العراقية لم تكن لتتوقع سقوط نظام شاه إيران بالبساطة التي سقط فيها، فنظام الشاه كان يتكئ على خامس جيش في العالم وكان هذا الجيش يدين بالولاء للشاه بشكل غير متصور، فكيف انهار هذا النظام؟! وكيف تخدر جنرالات الجيش الفارسي وعجزوا عن الإقدام على خطوة تنقذ النظام من السقوط؟ وتنقذ رؤوسهم من مقصلة النظام الجديد الذي رفع شعارا في غاية الغرابة وهو أن من يعدم وهو برئ فإن مآله إلى الجنة ومن يعدم وهو مذنب فهذا جزاؤه؟!، لا بد أن يدا خفية هي التي تحركت لسحب البساط من تحت أقدام جنرالات الشاه ومنعتهم من اتخاذ أي خطوة توقف تداعي النظام القائم والذي وصل في عنجهيته مرحلة غير مقبولة من جانب القوى الداعمة له وبخاصة الولايات المتحدة التي بدأت ترصد منه سلوكا منفردا بعيدا عن ترتيبات التفاهم مع واشنطن، وخاصة فيما يتعلق بأسعار النفط وهي السياسة المتطابقة مع سياسة الأوبك التي كان الغرب والدول الكبرى المستهلكة للنفط خطرا يهدد استقرارها الاقتصادي، ولهذا قررت تأسيس وكالة الطاقة الدولية لتكون الطرف المواجه للأوبك، لكن المراقب يجب ألا يغفل جانبا مهما في المشهد، وهو أن العقيدة الشيعية عقيدة غلابّة تطغى على كل عقيدة سياسية دنيوية.
صفحات من كتاب (جسر الإعلام وعربات السياسة)
وسوم: العدد 801