في ظل حكم العسكر.. هل الإعلامي مسير أم مخير؟!
قال الإعلامي المصري المعزول جابر القرموطي، لقناة “بي بي سي” إنه مستعد للتوقف عن الحديث في السياسة مقابل أن يعود للعمل. وكأن المشكلة في أنه يتحدث في السياسة، وكأنه يتحدث في السياسة فعلاً؟!
القرموطي جرى الاستغناء عن خدماته ضمن إعلاميين كثيرين، ممن كان يُطلق عليهم الأذرع الإعلامية للانقلاب العسكري، لكن الانقلاب “أكلهم لحماً ورماهم عظماً”، والقائمة الجديدة تبدأ بلميس الحديدي، ولا تنتهي بـ جابر القرموطي، وهناك قوائم سابقة، بدأت بيسري فودة ولم تنته بباسم يوسف. وتفخر لميس الحديدي في جلساتها الخاصة أنها رفضت طلباً بأن يكون برنامجها اجتماعياً بعيداً السياسية، مثل برنامج خالدة الذكر منى الشاذلي وفضلت التقاعد على ما يدعونها اليه. فهل رفضت فعلاً؟! وقد توقعت مبكراً أن يُطلب هذا منها، وكانت قد بدأت التدريب عليه، فلماذا رفضت الآن؟ وهل رفضت فعلاً؟ إن هذا يقودنا إلى سؤال فلسفي: هل الإعلامي مسير أم مخير في ظل حكم العسكر؟!
إن رجل الأعمال نجيب ساويرس ظل فترة طويلة يفخر بذاته لأنه قرر أن يصنع من جابر القرموطي مذيعاً وأنه نجح في هذا، وتحدى به من قالوا إنه لا يصلح أن يكون مذيعاً، وربما وهو يقول هذا تلبسته روح الصحافي المصري الكبير مصطفى أمين، صاحب دار “أخبار اليوم” الصحافية، والذي يُروى عنه أنه كان يتبارى مع محمد التابعي وآخرين في القدرة على صناعة الصحافيين، حتى وصل به المطاف إلى أنه أعلن مرة أنه يمكن أن يصنع من فلان صحافياً، ولم يكن سوى أحد عمال المؤسسة، وبدأت الصناعة بأن أرسله مع سكرتيرته لأحد محلات الملابس، لتشتري له ملابس تليق بالمرحلة الجديدة، ثم قام بارساله في مهام صحافية، وسط بروباغندا صاحبت عملية النشر، لموضوعات قيل إنه عهد للصحافي رشيق العبارة أنيس منصور بكتابتها، لكن وقد صار صاحبنا نجماً معروفاً فلم ينمي مهاراته، ولم يضف لنجاحه المصنوع شيئاً، وإنما استثمره حتى آخر يوم في حياته في الابتزاز، وإن كان هناك من نجح لأنه طور من نفسه وتماهى مع مهنته الجديدة!
القرموطي لم يكن هذا أو ذاك، فهو صحافي، عمل في الكثير من الصحف، كمحرر اقتصادي نشط، ومن خلال عمله في إحداها تعرف على نجيب ساويرس بحكم التخصص، والذي تبناه بعد ذلك عندما أطلق قناته “أون تي في”، وكل ما فعله أن فرضه على المشاهدين، دون إقرار بأنه نجح، وإن كان اجتهد من أجل النجاح، من منطلق أن الدنيا تؤخذ غلابا، كما قالت الست، ومشكلة نجيب ساويرس أنه اعتقد أن الإلحاح به على المشاهد يعني أنه كسب الرهان، ولم يكن هذا صحيحاً.
بيع “أون تي في”
في الأيام الأخيرة للرئيس محمد مرسي، ربما خشي “نجيب ساويرس” من إقدام النظام على إغلاق القناة فأعلن بيعها لرجل أعمال تونسي، والبيع لا بد أن يتم وفق اجراءات، تخطر بها هيئة ووزارة الاستثمار، وهي قبضة النظام الاخواني، والذي كان قد طالب نجيب ساويرس بضرائب صفقة تجارية له، لكنه هرب إلى باريس، ومن هناك بدا كما لو كان آية الله الخوميني، الذي سيأتي إلى مصر في طائرة عقب قيام الثورة، ألم يكن الخوميني في باريس أيضاً عقب اندلاع الثورة الايرانية؟!
هناك تجاهل ساويرس موضوع أزمته مع الحكم، وأعلن أن خلافه مع الحكم الاخواني سياسي، وفي المقابل لم يقض عليه الاخوان بالضربة القاضية باعلان الحقيقة، وأنه متهرب من ضرائب مستحقة عليه قدرها (11) مليار جنيه عن صفقة واحدة، تماماً كما لم يعلن وزير استثمارهم عدم صحة ما يردده من أنه لم يبع “أون تي في”، فلم نعرف بالأولى إلا عقب التسوية، واستقبال الرئاسة ساويرس العائد من باريس في صالة كبار الزوار، ثم كان أن انخرط في القوى المناوئة لهم، وأعلن أنه باع “أون تي في” لرجل أعمال تونسي، ولم يكن بامكاننا أن نجد مصدراً في هذه الفترة نعرف منه الحقيقة، من زاوية أن المعلومة ضالة الصحافي، فلجأت إلى التحليل!
لقد كتبت في هذه الزاوية “فضائيات وأرضيات” ولأكثر من مرة، أحاول الوصول إلى صحة ما كان يردده ساويرس، وكانت عندي عدة معطيات انتهيت بها إلى أن “أون تي في” لم يتم بيعها وأنها لا تزال في عصمة ساويرس، منها عدم منطقية أن يقوم رجل أعمال تونسي بشراء محطة تلفزيونية لتسمر في رسالتها نفسها معنية بالشأن المصري فقط، كما أني اعتبرت أن استمرار جابر القرموطي في عمله في “أون تي في” هو دليل آخر على أنها لا تزال في قبضته، فـ “القرموطي” هو خيار ساويرس الاستراتيجي، ولا يمكن أن يكون خيار غيره، وأطلقت “دعوة اختبروا عملية البيع ببقاء جابر القرموطي”، متأثراً ببيان نشر قديماً منسوباً للجماعات الدينية تحت عنوان “اختبروه بـالختان”، وكان المقصود بذلك هو المستشرق الفرنسي “روجيه جارودي”، فبعد الترحيب به لدخوله الإسلام، بدأ يتحدث في منطقة الشبهات بما لم يقبله الاسلاميون منه، وهنا بدأ التفكير في أنه دسيسة غربية للنيل من الإسلام بعد اختراق معسكره، فكان لا بد من الدعوة لاختباره بالختان. والآن بعد كل هذه السنوات هل صدر البيان فعلاً من قبل هذه الجماعات، أم أنه نسب اليهم؟ حقيقة لا أعرف ولم أنشغل به سوى الآن من باب أن الشيء بالشيء يُذكر!
وبينما ساويرس في فرنسا يتعذب وهو يعلن أن نجله يتوحم على الملوخية، فلم يُعود أولاده على العيش خارج مصر، وأوب الاعلام معه، وحزن لحزنه، وتلقيت اتصالاً هاتفياً من الإعلامي خيري رمضان يؤكد فيه أن “ساويرس” هرب فعلاً من بطش الاخوان، ولو تأخر دقيقة واحدة لتم اعتقاله، قبل أن نكتشف أن المعركة من أجل مديونيته لصالح الدولة!
بعد الانقلاب العسكري استراح ساويرس وأراح فأعلن أنه لم يقم ببيع “أون تي في” لرجل الأعمال التونسي المقيم في باريس، كما سبق له وأن ادعى قبل الانقلاب، وهو ما أكدته مبكراً بالتحليل في فترة افتقدنا فيها للمعلومات، تحت مظلة إن الله يدافع عن الذين أمنوا؛ والحال كذلك فليست الحكومة معنية بذكر الحقيقة لتدافع بها عن نفسها!
بيد أن النظام الانقلابي وفي معرض تجريده لنجيب ساويرس من أسلحته أجبره على بيع “أون تي في” ففعل، وكان في ثمنها من الزاهدين، فهل قبض الثمن بالفعل؟
مهما يكن، فقد تم التخلص من جابر القرموطي، ومن إبراهيم عيسي، ومن يوسف الحسيني في وقت لاحق، وبعد فترة بطالة ذهب القرموطي ليقدم برنامجه على قناة “النهار”، لكن الحكم العسكري استحوذ أيضاً على قناة “النهار”، وكان طبيعياً أن يغادرها جابر القرموطي، وهنا صاح في البرية أنه يريد أن يعمل، فاته أنه بالفعل يعمل في “الأهرام”، وكثير من زملائه الصحافيين يفتقدون لهذا “الأمان الوظيفي” الذي يمتلكه، وكثير منهم بلا عمل منذ سنوات، ومنهم من يعش على “بدل نقابة الصحافيين” الذي لا يكفي لسداد فواتير المرافق (المياه والكهرباء)، لكن المشكلة تكمن في أنه انتقل إلى القلة من الاعلاميين التي عرفت العقود بملايين الجنيهات، ثم إن الراتب الذي تمنحه أكبر مؤسسة صحافية في مصر، لم يعد يكفي لشيء، في ظل ارتفاع الأسعار، وفشل الحكم العسكري في البر والبحر، ومع ذلك يطمع أن يزيد وأن يعدل الدستور لتمكنيه من الحكم مدى الحياة!
مقابل العودة
لقد ظن صاحبنا أن المشكلة في كونه يتحدث في السياسة، فأعلن أنه مستعد لعدم الحديث فيها مقابل عودته للشاشة، وكأنه أحد المعارضين للحكم، وهي أزمة من لا يعرفون مآلات حكم العسكر، وقد توقعت تسريح الاعلاميين وكتبت هذا أكثر من مرة، ولم أكن أقرأ الكف، أو أطالع الفنجان، ففقط لأني مشغول منذ سنوات بعيدة بالحكم العسكري وكيف يقدر وكيف يفكر؟ ثم أنني أقرأ ما بين السطور في كلام السيسي، وما لم يسعفه لسانه على ذكره، والرجل يريد هدوءاً يليق بوحدة عسكرية، فتزعجه الضوضاء، ولو كانت للهتاف باسمه، ويقلقه أن تخرج البلاد على نواميس المعسكرات، فهو يعتبر هذا اخلالاً بالنظام العام، وقبل هذا وبعده، وهو ما كتبته أيضاً، أنه يحتاج إلى من هم بدون أية دراية بالسياسية ويفتقدون للمرجعية السياسية، ولهذا هو لم يقبل استمرار وجود جماعات اليسار المؤيدة له بجواره، فهو لا يريدهم، فضلا عن أن لديه قلقا من إعلاميين يفتقدون للعذرية، وهؤلاء متعددوا الولاءات ربما لدول أخرى مؤيدة للانقلاب وللسيسي، وهو يريد وحده الذي يتعامل مع هذه الدول، فلا يؤمن بوائقها، وقد تستغل هؤلاء الاعلاميين في عملية الانقلاب عليه أو التخلص منه، وهم أصحاب خبرة لدورهم ضد الرئيس محمد مرسي!
ولا يأمن السيسي بوائق متعددي الولاءات، ولو للأجهزة الأمنية، فلديه قلق من هذه الأجهزة، وربما لا يجد أمانه سوى في المخابرات الحربية، باعتباره كان مديراً لها (لمدة سنة واحدة بالمناسبة)، ولولا قنوات تركيا (مكملين والشرق) لتم تسريح أحمد موسى أيضاً!
لقد كانت لميس الحديدي مثلاً في حملة الدعاية لمبارك في آخر انتخابات له، وحازت على ثقة العائلة فعهد إليها باعادة تقديم جمال مبارك للجماهير في مقابلة تلفزيونية تم بثها عبر التلفزيون المصري، لكن بقيام الثورة، باعت مبارك، وتعاملت كما لو كانت من شباب الثورة!، فمن يأمن لها!
إن السيسي لم يقبل أن حواراً من أذرعه الاعلامية للدعاية الانتخابية في ولايته الثانية وكما فعل في الأولى، وجيء له بالمخرجة السينمائية “ساندرا نشأت” لمحاورته، في إشارة لا تخطئ العين دلالتها، وقد أبدى امتعاضه من فكرة المذيع اليومي، وقلت لحظتها إنه سيسرح اعلامييه ليبقى أحمد موسى إلى حين.
وإزاء الاهتمام الاعلامي ببطالة جابر القرموطي فقد يعيدوه للشاشة تارة أخرى ذراً للرماد في العيون، لكن في النهاية سيتخلص السيسي من حمامه القديم كلية، ويصنع حمامه بنفسه، في يوم يعض فيه الظالم على يديه، لكن هؤلاء لا يمكنهم أن يجرؤوا باعلان معاداة السيسي، فقط سينزوي اللاحقون كما انزوى السابقون، وسيخرجون إذا خرجت الجماهير باعتبارهم أصل الثورة وروحها.
هل تذكرون ظاهرة الاعلاميين المتحولين؟!
وسوم: العدد 806