مبدأ المواطنة في ظل الحكم الإسلامي
ذات يومٍ سقط دِرْع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فوجدها عند رجل نصراني، فاختصما إلى القاضي شريح، قال علي: الدرع درعي، ولم أبعْ ولم أهبْ، وقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت القاضي شريح إلى علي بن أبي طالب يسأله: يا أمير المؤمنين، هل لك من بينة؟ فضحك علي رضي الله عنه قائلًا: أصاب شريح، ما لي بيِّنة، فقضى شريح للنصراني بالدرع لأنها في حوزته ولم يقدم أمير المؤمنين بينة تؤيد دعواه، فلما أخذها الرجل خطا خطوات ثم عاد يقول: أمير المؤمنين يُدينني إلى قاضيه فيقضي لي عليه؟ أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعتُ الجيشَ وأنت مُنطلق من صفّين، فخرجتْ من بعيرك الأروق، فقال علي: أما إذ أسلمت فهي لك».
ربما يظن القارئ للوهلة الأولى أنها مقدمة للحديث عن سماحة وعدل الإسلام، أَمَا إن هذه الحقيقة لا ينكرها إلا جاحد، إلا أنني جعلت القصة استهلالًا للحديث عن أمر، وإن يعتبر في هذا التوقيت تنظيرًا، إلا أن له أهميته البالغة في تحرير المصطلحات الرائجة ومعرفة مدى توافقها مع الشريعة، وعن المواطنة في ظل الحكم الإسلامي أتحدث.
ابتداءً أود القول بأنه ليس في الإسلام دولة دينية بمعنى الحكم الثيوقراطي، الذي يكون للحاكم فيه الطاعة المطلقة باعتباره نائبًا عن الله يتحدث باسمه، يحلل ما يراه ويحرم ما يراه، يعطي من يرى ويمنع من يرى، فحقيقة الدولة في ظل الإسلام، أنها دولة مدنية ليست مرادفًا لمعنى الدولة العلمانية، وإنما هي دولة مدنية بمرجعية إسلامية، على مبدأ سيادة القانون المُستمد من قطعيات الشريعة وثوابتها باعتبارها المرجعية العليا، فالواقع يشهد أن كل تشريع بشري يعبر عن الطبقة المُشرّعة، ويمثل مصالحها على حساب بقية الطبقات، حيث أن تشريعات رأس المال تكون لصالح الرأسماليين، وتشريعات البروليتاريا تكون لصالح العمال الكادحين وهكذا.
ولكن مع سيادة النصوص الشرعية فهناك حق للأمة في الاجتهاد، كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي: «إقرار مبدأ التشريع والحاكمية لله لا يسلب الأمة سلطانها في الاجتهاد لنفسها في التقنين لحياتها وشؤونها الدنيوية المتطورة، إنما المقصود أن يكون التشريع أو التقنين في إطار النصوص المعصومة والمقاصد الكلية للشريعة».
الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية تعد من أبرز مقوماتها المواطنة، وهو المصطلح الذي كان ولا يزال محل تنازع بين الإسلاميين والعلمانيين، فبعض الإسلاميين ينفي وجود هذا المصطلح في الدولة الإسلامية، كما أن العلمانيين يرون أن حق المواطنة في ظل الحكم الإسلامي مهدور وغير معترف به. والحقيقة تقول: إن الإسلام أرسى دعائم الحكم على هذا المبدأ، حيث الإقرار بحقوقهم الإنسانية وحرياتهم الأساسية، وعدم التحيز لطرف على حساب الآخر لاختلاف الدين أو اللون أو الجنس، وإنفاذ القوانين والإجراءات القضائية على الجميع، بدون استبعاد أو تهميش، وهو في جوهره نوع من التسامح واحترام الخلقة البشرية التي كرمها الله، ولعل الواقعة التاريخية التي صدّرتُ بها المقال خير دليل على تضمُّن الحكم الإسلامي لهذا المبدأ، فرجل من أهل الذمة يقف مع الحاكم العام أمام القضاء، ثم يقضي له القاضي بهذا الحق، مع علمه اليقيني بصدق علي بن أبي طالب، لكن الجميع ملزمون باحترام القانون والعمل به بدون تمييز.
لم يكن سريان القانون على الجميع في هذه الحادثة سوى انتهاج لما كان عليه عهد النبوة، إذ نص الحديث النبوي الصحيح على أنه (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
وخلال عهد الدولة الإسلامية الأولى كانت الوثيقة التاريخية الخالدة التي تنص على حق المواطنة، جاء فيها كما أورد ابن هشام في السيرة النبوية «وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ (يُهلك) إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ… وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ»، فيُلاحظ في الوثيقة المساواة في الحقوق والواجبات بين اليهود والمسلمين، بما يعني التعامل على أساس المواطنة.
حتمًا سيعترض البعض قائلا: لماذا تتحدثون عن حق المواطنة وأنتم تُلزمون المجتمع بالمرجعية الإسلامية؟ لماذا لا تحل مرجعية دينية أخرى محلها؟
أقول: إن كنتم تجيزون مرجعية عليا غير إسلامية، فلماذا تنكرون على غيركم اعتبار هذه المرجعية الإسلامية هي المرجعية النهائية للمجتمع؟أليست كل القوانين المعمول بها في المجتمعات المدنية الغربية نابعة من الهوية الثقافية لتلك المجتمعات وتحافظ عليها؟ أليست الرأسمالية الليبرالية هي المرجعية التي ارتضاها الأمريكان؟ ألا يمنع الدستور الأمريكي أن يتولي شيوعي رئاسة الدولة؟ فلماذا تستنكرون حدوثه في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة؟ أليس الإسلام هو الهوية الثقافية الغالبة التي تمثل الحضارة الأخيرة التي انصهرت فيها جميع الحضارات السابقة؟ ألا يصلح أن يكون الإسلام مرجعية عليا للجميع، يعمل به المسلمون التزامًا وديانة، ويعمل به غير المسلمين باعتباره قانونًا ودستورًا، على أساس أنهم مُكوّن أساس من مكونات الحضارة الإسلامية؟
إن تحرير المصطلحات المعاصرة المتعلقة بالنظام الإسلامي، ليست ترفًا أو طنطنة لا فائدة منها، بل تدخل في محاولات التوفيق غير المتعسف بين أصحاب المنهج الإسلامي وحملة المناهج الأخرى، ويمكن من خلالها صنع أرضيات مشتركة للالتقاء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 808