ترامب يهب ما لا يملك إلى مالا يستحق
في سابقة خطيرة على مستوى العالم والعلاقات الدولية اعترف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسمياً بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان المحتلة من سورية في عام 1967، جاعلاً من نفسه وصياً على الدول بكل مكوناتها الأرض والشعب، فيهب ويمنح ويعطي وكأن سورية مزرعة لأبيه وقد ورثها ترامب ومن حقه أن يهب أصدقائه أجزاء من تلك المزرعة بما يحقق لهم أمنهم وسلامتهم؛ كما يدعي في قراره الظالم والأهوج والمتسرع، متأسيا بما فعله بلفور عندما منح اليهود موطناً في فلسطين.
وأمريكا هذه التي وصل إلى سدة رئاستها أحمق عنصري متعجرف لا يقيم وزنأً للأخلاق أو القيم أو المعايير الإنسانية.. أمريكا هذه لم تتجرأ يوماً على اتخاذ مثل هذا القرار، وكانت قد صوتت قبل ثلاث سنوات، في ظل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، لصالح بيان لمجلس الأمن يعرب فيه عن قلقه العميق إزاء اعلان نتنياهو عدم تنازل إسرائيل عن الجولان وإعادته إلى سورية لأنه جزء لا يتجزأ منها احتل بالقوة العسكرية.
إنها جبروت القوة التي يمتلكها ترامب وربيبته الدولة العبرية، في مواجهة الضعف والهوان التي آلت إليه حال الدول العربية وتشرذمها وتناحرها، ولكن ترمب الجاهل بحقائق التاريخ وعدم اطلاعه على وقائعه وتقلباته، لم يسعفه عقله إلى مراجعة تاريخ العرب والمسلمين وكيف ينهضون عند الشدة من كبوتهم كالمارد، ويستعيدون حقوقهم ويطردون عدوهم صاغراً من بلادهم مهما غلت التضحيات، وخير مثال طرد الصليبيين من بيت المقدس وطرد التتار من بغداد وبلاد الشام، والفرنسيين من المغرب والجزائر، والطليان من ليبيا، والإنكليز من مصر والعراق والأردن وجنوب اليمن، والفرنسيين من سورية ولبنان، وغداً لناظره قريب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
الدولة العبرية تريد أن تكون مرتفعات الجولان تحت سيداتها لأن هذه المرتفعات تطل على حدودها الشمالية وتضع مستوطناتها تحت رحمة هذه المرتفعات التي تتحكم بتحركاتها وتحد من نشاطاتها العسكرية والاقتصادية، وبالتالي فإنها الجدار الذي يحمي أمن الدولة العبرية.
تقع الجولان على بعد نحو 60 كيلو مترا جنوب غربي العاصمة السورية دمشق، وتضم مساحة تصل إلى نحو 120 كيلومتراً مربعاً.
وكانت الدولة العبرية قد احتلت معظم مرتفعات الجولان من سورية إبان حرب يونيو / حزيران 1967، بتواطؤ من وزير دفاعها آنذاك اللواء "حافظ الأسد" الذي أعلن عن سقوط القنيطرة قبل أن تدنسها قدم أي جندي صهيوني بثماني عشرة ساعة، وأصدر أمراً لجيشه أن ينسحب انسحاباً كيفياً من الجولان، الأمر الذي أربك القوات السورية وجعلها تهرب من أماكنها على غير هدىً تاركة الترسانة العسكرية السورية التي دفع المواطن السوري ثمنها من دمه وعرقه غنيمة للصهاينة، حتى أن قائد الجبهة العقيد "محمد المير" نزع لباسه العسكري وألقى سلاحه بعد أن استولى على لباس وحمار أحد الرعاة وهرب حتى وصل إلى دمشق حافي القدمين.
وفي عام 1973 قام حافظ الأسد؛ بعد ان استولى على السلطة غدراً عام 1970 بعد أن شعر أن هناك خططاً لمحاسبته عن سقوط الجولان، بما سماه "الحركة التصحيحية" بمسرحية "حرب تشرين التحريرية" حيث تمكنت الدولة العبرية من الاستيلاء على ما تبقى من قرى هضبة الجولان "24 قرية" وفاءً من الأسد لأهله وعشيرته.
نعم كثير من الناس لا يعرف أن حافظ الأسد ينتمي للدولة العبرية عن طريق أمه اليهودية، فقد روى لي زميل لي كنا نعمل معاً في جريدة العرب اليوم الأردنية، وهو فلسطيني الأصل والهوى، قال لي:
كنت مع بعض الزملاء نقوم في تحقيق صحفي في مدينة الناصرة ودخلنا بيتاً يسكنه يهود فلم نجد إلا عجوزاً رحبت بنا ودعتنا إلى فنجان من القهوة، وعند دخولنا إلى غرفة الجلوس لفت انتباهنا صورة كبيرة للرئيس حافظ الأسد "بطل الصمود والتصدي" كما كان يطلق عليه الإعلام السوري، معلقة في صدر الغرفة. فسألت العجوز باستغراب كيف تعلقين صورة من يريد القضاء عليكم؟ فقالت والابتسامة تعلو فمها "هذا ابن اختي الذي يحمي حدود دولتنا الشمالية"، فقلت: وكيف ذلك؟ قالت: "هو منا ونحن منه يحمينا ونحميه"، وتأكد لنا صحة ما سمعناه من العجوز ما كان يرفعه الجنود الصهاينة من صور حافظ الأسد على سياراتهم أثناء حرب حزيران وقد نشرت وكالات الأنباء هذه الصور وهي تزين سيارات الجيش الصهيوني.
لم يكتف حافظ الأسد بتسليم ما تبقى من قرى الهضبة إلى العدو الصهيوني، بل مهر كل ذلك باتفاقية الكيلو "54" عام 1974، لوقف الاشتباك بعد عام من إنشاء منطقة منزوعة السلاح بطول 70 كيلومترا تشرف عليها دوريات مراقبة تابعة للأمم المتحدة. لكنها في حالة حرب من الناحية الفنية.
وفي عام 1981 أقر البرلمان العبري تشريعا يطبق "القانون والاختصاص القضائي والإدارة" على الجولان، وضم الأراضي، غير أن المجتمع الدولي لم يعترف بالخطوة وظلت مرتفعات الجولان أراض سورية محتلة، وأعلن قرار مجلس الأمن التابع لأمم المتحدة رقم 497 "بطلان وإلغاء (القرار الإسرائيلي) وبدون أثر قانوني دولي".
وتوجد حالياً في مرتفعات الجولان نحو 30 مستوطنة عبرية في هذه المنطقة ويعيش فيها نحو 20 ألف مستوطن. كما يعيش فيها نحو 20 ألف سوري أغلبهم من الطائفة الدرزية.
وتحققت نبوءة الجاسوس الإسرائيلي "كوهين" عندما سمعته وهو يقول للعقيد "صلاح جديد" رئيس أركان الجيش السوري آنذاك، مشيراً بيده إلى المستوطنات الصهيونية عندما زار الجولان ونقطة "زعورا" بالذات التي كنت أؤدي خدمتي العسكرية فيها، بصحبة الرئيس السوري آنذاك "أمين الحافظ" و"المشير علي علي عامر" قائد الجيوش العربية، وجمع من قيادات حزب البعث القومية والقطرية عام 1964، فقد سمعت كوهين يقول لصلاح جديد: ليبني الصهاينة ما شاءوا من مستوطنات ومزارع لأنها في المحصلة ستكون لنا، وكانت كما تنبأ كوهين.
وسوم: العدد 817