حينما يتحدث المثقف البائس في القضايا الكبرى للأمم
نشر مثقف سوري، يحسب على المعسكر العلماني – الليبرالي للمعارضة السورية وتصنيفات الساحة الثقافية العربية، مقالة، كرست للهجوم على الرئيس الراحل، د.محمد مرسي، ومحاولة تقويض ميراثه؛ وتحميله مسؤولية الانقلاب عليه.
ثمة من رأى أن المقالة تكشف عن الهشاشة الأخلاقية للكاتب، لاسيما أن مرسى توفي، أو قتل، بفعل التعامل الوحشي، وغير الإنساني الذي تعرض له على يد الانقلابيين؛ ولم تزل ذكراه دافئة، حية، تبعث على الحزن وتثير الألم.
ورأى آخرون أن المقالة تعكس أزمة التطرف العلماني العربي، الذي لا يستطيع التعايش مع مخالفيه، سواء في ظل مناخ ديمقراطي أو غير ديمقراطي، كون مرسي جاء إلى رئاسة الجمهورية من صفوف الإخوان المسلمين.
ورأت فئة ثالثة أن المقالة كتبت ربما ببواعث طائفية، لأن صاحبها ينتمي في أصوله لأسرة سورية مسيحية، لاسيما أن المشرق العربي ابتلي، في السنوات الماضية منذ اندلاع حركة الثورة العربية، بتيار يدعو إلى تحالف الأقليات العربية ومواجهة الصعود السياسي للأغلبية السنية.
ما يبدو لي أن المقالة لا تحمل أيا من التصنيفات السابقة؛ ولكن الأرجح، والأوضح، أنها عبرت عن تفاهة وسطحية كاتبها. هذه مقالة لا علاقة لها بالقيم الأخلاقية، لا سلبا ولا إيجابا، ولا يمكن اعتبارها نصا علمانيا أو ليبراليا، ولا تكشف عن هدف طائفي معين لاسيما أن المقولات التي تحملها يتبناها مثقفون عرب آخرون، من خلفيات مسلمة.
تحمل هذه المقالة من الجهل بتاريخ مصر وأحداثها، أكثر بكثير مما تحمل من الصرامة الأيديولوجية؛ ويتخلل نصها شعور باليأس والقنوط والانكسار، مثير للشفقة، لمثقف خفيف الوزن، انحاز لحركة الثورة العربية، والسورية منها بصورة خاصة، ظنا منه أن الثورة شأن سريع، لن يلبث أن يحقق له مكاسب الانتصار والدور والحكم.
يصف المثقف المهزوم ما حدث في مصر قبل ست سنوات بالانقلاب، وهو موقف مدهش ومستجد؛ لأنه حينها، في الأسابيع القليلة التي تلت 3 تموز/يوليو 2013، كان يصف الانقلاب على المسار الديمقراطي بالثورة.
تصور المثقف البائس الثورة عملا معقما، يتحدث أبناؤها، جميعا، لغته، ويعتقدون بصواب أهدافه، وأهدافه هو وحسب. فلما طال الأجل بالثورة، اتسع نطاقها وتعددت أصواتها، وبدا أنها أخفقت في تحقيق أهدافها، ذهب في توزيع الاتهامات، يمينا وشمالا، على أبناء الشعوب المتخلفة، على المتدينين وغير المتدينين، الذين تسببوا، بعدم تماهيهم مع لغته وطموحاته، في إخفاق الثورة. ثورة لا تشبه المثقف المسكون بذاته هي ليست ثورة أصلا.
واجب المثقف، بالطبع، أن يتفضل على العامة من الشعب برؤيته للأمور، بنظرية للثورة ونظرية للإخفاق، وكما في قراءته للثورة السورية، التي اتهم ثوارها بأنهم مجرد عصابات من القتلة والمجرمين، كان على مقالته أن تسرد أسباب انكسار المسار الديمقراطي في الشقيقة الكبرى، مصر.
هذا، كما تستبطن المقالة، أنه أخفقت عملية التحول الديمقراطي، ووقع الانقلاب على مرسي، بسبب مرسي نفسه، والسياسات التي اتبعها، والتوجهات التي حملتها جماعته، جماعة الإخوان المسلمين، الذين لم يفعل صعودهم للحكم إلا كشف حقيقة ادعاءاتهم الديمقراطية! ولكن هذا كله تطور متأخر في قراءة مصر وتحولاتها.
يصف المثقف المهزوم ما حدث في مصر قبل ست سنوات بالانقلاب، وهو موقف مدهش ومستجد؛ لأنه حينها، في الأسابيع القليلة التي تلت 3 تموز/يوليو 2013، كان يصف الانقلاب على المسار الديمقراطي بالثورة، مؤكدا أنه سينعكس إيجابا على الجوار العربي برمته.
ما جادل به حينها، وما حملته مقالته مؤخرا، لا يختلف كثيرا في قراءة العام الوحيد الذي قضاه مرسي في رئاسة الجمهورية المصرية. في المرة الأولى، استخدمت المقولات لتبرير دعم الانقلاب والترويج له؛ وفي المرة الثانية، وبعد أن أصبح وضع مصر من البشاعة بحيث بات من الصعب التماهي معه، استخدمت المقولات ذاتها لتفسير إخفاق التحول الديمقراطي وإلقاء مسؤولية الإخفاق على عاتق الرئيس، ضحية الانقلاب.
ليس ثمة عمق في النفاذ إلى جوهر الأمور، ولا تصور يعتد به لفترات الانتقال إلى الديمقراطية، ولا استطلاع جاد لماهية الدولة الحديثة وبنيتها؛ ناهيك عن الجهل الفادح بمجريات الأحداث والوقائع في مصر ما بعد مبارك.
في الحالتين، سمح المثقف البسيط لنفسه بالانسياق، كما كل الكائنات البسيطة، خلف ما روجه الانقلابيون، وما روجه من مهدوا لهم طريق الانقلاب، من مسوغات لخيانتهم تاريخ بلادهم وآمال شعبهم: تنكر مرسي للديمقراطية وكان في طريقه للتحول إلى دكتاتور؛ عمل وجماعته على أخونة الدولة؛ أدار ظهره للتعدد السياسي في صفوف الثورة ... وما شابه.
تسلم مرسي مقاليد الرئاسة بعد أن كان المجلس العسكري سلب موقع الرئاسة جزءا ملموسا من صلاحيات الرئيس. وقد أظهر مرسي شجاعة وصلابة فائقة عندما أطاح المجلس العسكري في آب/أغسطس 2012، وأعاد لمنصب الرئيس المنتخب صلاحياته.
وربما يجدر بمن يتهمون رئاسته بالضعف أن يتذكروا أن خطوة التخلص من هيمنة المجلس العسكري جاءت في وقت مبكر، وحتى قبل أن يتعرف الرئيس، القادم من خارج جسم الدولة المصرية، على مؤسسات الدولة والحكم، وقبل أن يتيقن من موازين القوى داخل جسم الدولة.
عندما يكتب تاريخ الثورة المصرية يوما لا بد أن يذكر أن إطاحة المجلس العسكري مثلت خطوة ثانية كبرى، بعد التخلص من مبارك، في طريق الانتقال الديمقراطي والانتصار للثورة وقواها.
بيد أن مرسي، ولا في لحظة واحدة من رئاسته القلقة، أظهر نزوعا نحو التفرد أو تحقيق سيطرة إخوانية، أو حتى إسلامية، على الحكم ومؤسسات الدولة.
اختار مرسي وزيرا للدفاع من داخل المجلس العسكري السابق؛ اختار رئيسا للحكومة من أبناء الدولة المصرية؛ وكذلك فعل في رئاسة المخابرات، رئاسة جهاز الأمن الوطني، وزارة الداخلية، وزارة العدل، ووزارة الخارجية.
ولم يتجاوز عدد الإسلاميين، بما في ذلك الإخوان، في آخر تشكيل حكومي له عدد أصابع اليد الواحدة، بالرغم من أن حزب الحرية والعدالة، أداة الإخوان السياسية، كان صاحب الكتلة الأكبر في برلمان الثورة المنتخب، وأن الإسلاميين ككل تمتعوا بأغلبية لا جدال فيها في البرلمان. كما اختار الرئيس معظم مستشاريه، بما في ذلك مستشاره القانوني، من بين الأطياف السياسية كافة، ومن الأكاديميين غير المنتمين حزبيا.
عندما بدأ الرئيس تطهير وإعادة بناء أجهزة الدولة الموازية (الرقابة، المحاسبة، الإحصاء، إلخ)، لم يعين إخوانيا، أو إسلاميا واحدا في رئاسة هذه الأجهزة. وحتى العدد القليل من الوزراء والمعاونين، من الإخوان أو الإسلاميين، الذين اختارهم في الحكومة أو مؤسسة الرئاسة، كانوا جميعا من الشباب، المهنيين، وليس من القيادات الإخوانية والإسلامية المعروفة، أو القيادات التنظيمية.
وربما يجدر التذكير بأن أولئك الذين غادروا مناصبهم بعد الانقلاب لم يتجاوز عددهم العشرات، من الوزراء والمعينين سياسيا، كما في أية إدارة حكم ديمقراطي.
لم يحدث اختراق إخواني أو إسلامي لبيروقراطية الدولة أو أجهزتها، العسكرية، الأمنية، والمدنية، ولم يجد الانقلابيون أي إخواني أو إسلامي في مناصب الدولة العليا لطرده. خلال الشهور التالية، وبفعل الهجمة الأمنية واسعة النطاق، فقد إخوان وإسلاميون آخرون مناصبهم في مؤسسات الدولة والتعليم المختلفة، بالفعل. ولكن هؤلاء كانوا تولوا مناصبهم في مسار وظيفي تقليدي، ولم يكن أي منهم قد عين من قبل الرئيس مرسي أو إدارته.
كان باستطاعة الإخوان وحلفائهم من الإسلاميين، بحكم أغلبيتهم البرلمانية، السيطرة الكاملة على الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور. ولكنهم لم يفعلوا؛ وشكلوا جمعية متوازنة، ضمت الأطياف السياسية كافة وممثلين عن مؤسسات المجتمع والدولة ذات التأثير؛ واختاروا لرئاسة الجمعية قاضيا بارزا، مستقلا. ولم يكن غريبا أن تضع الجمعية دستورا التفت حوله أغلبية شعبية، وسيظل يذكر بأنه الوثيقة الدستورية الأفضل في تاريخ مصر الحديث.
في الساعات الأخيرة من رئاسته، وبخلاف الشائع، وافق مرسي بالفعل على الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة؛ وكان شرطه الوحيد أن تجري هذه الانتخابات بعد الانتخابات البرلمانية وعودة مجلس النواب.
وليس صحيحا أن الرئيس الشهيد أظهر عنادا في مواجهة الانقسام السياسي، أو أنه لم يضع معارضيه في الاعتبار. لم تكن صياغة الإعلان الدستوري في تشرين ثاني/نوفمبر 2012، بالتأكيد هي أفضل صياغة ممكنة. ولكن دوافع الرئيس خلف الإعلان الدستوري كانت صحيحة وعادلة. ففي حين كان الشارع يطالب بإقالة النائب العام وتطهير الجهاز القضائي، قصد مرسي بالإعلان الدستوري امتلاك القوة الشرعية الضرورية لتحقيق أهداف الشارع. هذا، فوق أن فعالية الإعلان الدستوري كانت قصيرة ومؤقتة، تنتهي بإقرار الشعب للدستور الجديد.
ولذا، لم يكن ثمة مبرر لأن يصبح الإعلان الدستوري مناسبة لانطلاق معارضة، تدعو إلى، وتعمل على إطاحة الرئيس المنتخب. أولا، لأن الرئيس سرعان ما تخلى عن الإعلان الدستوري، وأغلق الملف كلية. وثانيا، لأن أحدا، في مراحل الانتقال السياسي المبكرة والهشة، لا يجب أن يعبث بمناصب الدولة المنتخبة ديمقراطيا وبصورة حرة.
رفض الرئيس، بالفعل نصيحة جون كيري، في كانون ثاني/يناير 2013، بتعيين البرادعي رئيسا للحكومة. ليس لأن الرئيس لم يكن يريد معارضا في رئاسة الحكومة، أو أنه لم يرغب في إعادة بناء الإجماع السياسي في البلاد. رفض البرادعي لأنه اعتقد أنه غير كفء، وأنه لن يستطيع إدارة شؤون مؤسسات الدولة والبلاد. وبعد ذلك بشهرين فقط، استدعى الرئيس د. أيمن نور، المعارض، أيضا، وأحد مؤسسي جبهة الإنقاذ، وكلفه بتشكيل حكومة ائتلاف وطني. ولكن أيمن نور اعتذر عن التكليف، بعد محاولات استمرت عدة أيام، لم يجد خلالها استجابة كافية من قيادات جبهة الإنقاذ للتعاون معه.
وفي الساعات الأخيرة من رئاسته، وبخلاف الشائع، وافق مرسي بالفعل على الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة؛ وكان شرطه الوحيد أن تجري هذه الانتخابات بعد الانتخابات البرلمانية وعودة مجلس النواب، حرصا على أن تتفادى البلاد فراغا دستوريا. ولكن الانقلابيين، ومن مهدوا لهم الطريق، كانوا عقدوا العزم على تنفيذ الانقلاب على الرئيس.
هل ارتكب مرسي أخطاء ما؟ بالتأكيد، وكيف له ألا يخطئ وهو القادم من خارج مؤسسة دولة عميقة الجذور، لم تستطع الثورة المصرية اقتلاعها أو إيقاع تغييرات جوهرية في بنيتها.
ولكن هذه الأخطاء كانت صغيرة وهامشية، وليست من النوع أو المستوى الذي يبرر إجهاض مسار الانتقال الديمقراطي أو الانقلاب على أول رئيس منتخب بإرادة حرة في تاريخ البلاد. الذي أدى إلى إجهاض المسار الديمقراطي وإطاحة الرئيس، لم تكن أخطاء مرسي بل قوى أخرى مختلفة كلية.
واجه مرسي في رئاسته القصيرة مؤسسة دولة مستعصية على الإصلاح، اعتادت الحكم والسيطرة، ورفض الخضوع للإرادة الشعبية الانتخابية. وواجه ساحة سياسية منقسمة على نفسها، بمعارضة قصيرة النظر، مسكونة بالرغبة في الحكم، لم تستطع الصبر على الآلة الديمقراطية لتحقيق أهدافها. وواجه إعلاما ومجالا عاما خربا، وفاسدا، لم يكن من الصعب شراء ذمم بعض قادته وشخصياته.
وفوق ذلك كله، واجه مرسي إقليما منقسما حول حركة الثورة العربية وموجة التحول الديمقراطي، تمتعت فيه قوى الثورة المضادة بمقدرات هائلة وقدر فادح من الشر. وقد عملت هذه القوى على حشد إمكاناتها كافة، إقليميا، وفي كل ساحة ثورة على حدة، لاحتواء قوى الثورة وإجهاض التحول الديمقراطي.
ما حدث في مصر، حدث مثله في اليمن، في ليبيا، في سوريا، ويحدث الآن في السودان وفي الجزائر. من لا يستطيع رؤية هذه الحقائق، ليس جديرا بالتحدث باسم قوى الثورة والشعوب، ولا بالجدير بإصدار الأحكام على وقائع التاريخ الكبرى.
وسوم: العدد 833