ايران واستراتيجية الجلوس على الطاولة
قلت ذات مرة في احدى المحاضرات أن الدول تلجأ في بعض الاحيان الى اتباع استراتيجيات مبتكرة او فريدة من نوعها في التفاوض الدولي ومن هذه الاستراتيجيات ، استراتيجية الجلوس على الطاولة .
وتقوم هذه الاستراتيجية على فكرة مفادها أن البقاء على الطاولة هي غاية التفاوض وليس الهدف منها الوصول الى نتيجة، فالنتيجة هتا غير مهمة لكن إن اتت في النهاية بما يلائم مصالحها فكان بها، لكن تبقى الغاية العليا هي البقاء على الطاولة ( طاولة المفاوضات) لان ذلك يعني من بين ما يعنيه :
1. الاعتراف بك كطرف مفاوض.
2.الاعتراف بشرعيتك وفاعليتك في المجتمع الدولي.
3.تجنب استخدام القوة ضدك طالما ان هناك ابوابا للاتفاق ما زالت مفتوحة عبر المفاوضات.
4. تجنب فرض العقوبات اثناء المفاوضات لان الدول ستحرص على قيام بيئة مناسبة للتفاوض.
5. اعطائك فرصة كافية لفرض كثير من شروطك عبر سياسة الانهاك ، لاسبما اذا كان الطرف المقابل يريد نجاح هذا التفاوض والوصول الى اتفاق.
6.يتيح لصاحب استراتيجية " الجلوس على الطاولة " التحرك في مساحات اخرى بعيدة عن مجالات التفاوض ما كان من الممكن القيام بها لولا وجوده طرفا على طاولة التفاوض.
7. تمكن هذه الاستراتيجية من التخلص او التقليل من الضغط الداخلي ، تحت ذريعة ان بعض المطالبات مرتبطة بنتائج التفاوض او انها ستؤجل لما بعد التفاوض.
8.قمع المعارضة بوصفها عائقا امام صانع القرار في وصوله الى اتفاقات لصالح البلد عبر المفاوضات وان المعارضة سوف تضعف المكانة التفاوضية ازاء الطرف او الاطراف الاخرى.
لقد اتبعت ايران قبل التوصل الى الاتفاق النووي استراتيجية الجلوس على الطاولة بمهارة منقطعة النظير استمرت آخر مرة ( 21) شهرا ( 18 تفاوض مباشر حول المواضيع المتعلقة بالاتفاق زائد ثلاثة اشهر تمهيد للمفاوضات) ، لتحقق كثير من الاهداف التي تعطيها هذه الاستراتيجية، لتصل في نهاية الامر الى الاتفاق النووي بينها وبين مجموعة ( "1+5" التي تضم الدول دائمة العضوية في مجلس الامن زائدا المانيا) في ( 14) يونيو / تموز عام 2015 .
وتتضح اهمية هذه الاستراتيجية جليا في تفكير صانع القرار الايراني مم شوهد عدة ، إذ بعد قرار الرئيس الامريكي ترامب في مايو/ آيار العام الماضي الانسحاب من الاتفاق النووي قال وزير الخارجية الايراني في مؤتمر ميونخ بالنص ( هم ويقصد " امريكا" الذين قرروا ترك طاولة المفاوضات نحن لم نتركها وما زلنا على الطاولة) ادراكا منه بأهمية أن تكون ايران جزءا من لعبة المفاوضات وطرفا اسياسيا على طاولتها .
في المقابل فأن للادارة الامريكية رأيا مغايرا مفاده ان قراراتها الاخيرة قد ابعدت ايران عن طاولة التفاوض ، وانه لا عودة لها الى الطاولة الا بالاشتراطات ( 12) التي حددتها قبل السماح لايران بالعودة الى طاولة التفاوض.
من جهة أخرى تبدو ( المانيا ، روسيا ، الصين، فرنسا، يريطانيا) فاقدة للمبادرة أو التأثير ، فهي لا تريد خسارة الاتفاق وفي الوقت نفسه غير قادرة على التأثير على القرار الامريكي او ثني الادارة الامريكية عن التخلي عن شروطها ( 12) أو تقديم مبادرة الى الان تنزع فتيل الازمة وتعود بالجميع الى طاولة المفاوضات . وقد ضاعف الامر تعقيدا اعلان ايران عن نيتها بتعطيل بعضا من بنود الاتفاق للضغط على الدول الخمس ويقال ان هذا الموقف قد اتخذ بناء على نصائح من وزير الخارجية الامريكية السابق جون كيري والذي دفع ترامب الى الدعوة لمحاكمته متهما اياه بخرق قانون لوغان.
هذا الموقف الايراني جوبه برد صارم حيث ابلغ مصدرا بالرئاسة الفرنسية لرويتر على بأن أوروبا ربما تضطر لإعادة فرض عقوبات على طهران، وهو ما يزيد الخناق على طهران ويفشل مناورتها هذه .
وعليه ومن منطلق هذه المدركات التي اشرنا اليها اعلاه فان عودة ايران لطاولة المفاوضات مرهون اما بأستجابتها للشروط الامريكية الاثنا عشر ، أو انتظار الانتخابات الامريكية وتغير الادارة الحالية ، او المغامرة بخيار الصدام ثم العودة اليها من دون شروط ، او الضغط على الدول المتبقية من الاتفاق للقيام لمبادرة لايجاد حلول وسطى .
صفوة القول ان ايران تجد نفسها الان في مأزق وخطر حقيقي وهي ترى نفسها خارج طاولة المفاوضات ، مع خيارات محدودة وتقلص ساحة المناورة بما تمليه عليها من اثمان كبيرة ستضطر في النهاية الى دفعها.
وسوم: العدد 835