اليمنيون لا بواكيَ لهم
حذّرت الأمم المتحدة قبل بضعة سنوات من أن ما يحدث في اليمن من حروب وكوارث طبيعية يشكل مقدمات مكتملة لصناعة (مأساة القرن) التي لم يسبق لها مثيل في أي بلد في العالم، حيث تسابقت على نهش ما بقي من لحوم اليمنيين منظمات داخلية وأنظمة خارجية، وأوصلها مكرها الشيطاني إلى صناعة انقلاب مكتمل الأركان ومعزز بجنوح فكري وعصبية طائفية، بجانب امتلاء القائمين عليه بفيروسات التفوق السلالي والاعتقاد بضرورة إقامة دولة دينية يكون القائمون عليها هم أبناء الرسول وأحباؤه!
ولما كانت المصائب لا تأتي فرادى وإنما تهرول أفواجاً وتتداعى كالأمواج، فقد كانت تداعيات سرطان الاستبداد وطاعون الفساد، تواصل التناسل والتكاثر على هيئة خلايا سرطانية تنتشر في أوصال الجسد اليمني المُسجّى بين أيدي لصوص محترفين ومجرمين ذوي خبرات فائقة في سرقة الأعضاء والسطو على كافة الحقوق، حيث انبعثت العصبيات المناطقية والقبلية والجهوية بل والقروية، لتمزق المجتمع اليمني كل ممزق، ولم تكن أغلب الأحزاب السياسية بمنأى عن ذلك كله، فقد ساهمت في صناعة الكارثة ووظفت العصبيات السابقة بصورة غريبة؛ لدرجة أننا وجدنا قوميين يتدرعون بفكر قروي ضيق ويناطحون عن مصالح عصبية مقيتة وبصورة ممجوجة، ووجدنا أمميين لا يترددون عن السقوط في أفخاخ العصبيات السلالية والمناطقية والجهوية والمذهبية والطائفية دون أن تهتز لهم شعرة أو يستحوا من مقولة من مقولات ماركس أو إنجلز!
ولم تُقصّر الجغرافيا في الإسهام بصناعة هذه المأساة الكبيرة، فقد أجدبت الأرض وشحّت الأمطار في كثير من المناطق، بينما عانت مناطق اخرى من فيضانات وأعاصير غير مسبوقة، وزحف التصحر على مسافات شاسعة من الأراضي الزراعية وأهلكت الآفات المحاصيل الزراعية، بما فيها أسراب الجراد التي تكررت بضع مرات خلال سنوات قليلة. وحدث كل ذلك في ظل نظام فاسد تربّع على عرش الحكم في البلد سنين عدداً، وكان يسير في خطوات هوجاء من أجل توريث هذا الوطن كمتاعٍ للأبناء والأشياع، وصنع طوابير طويلة من الفقراء والمحتاجين، وأنجز كميات هائلة من الشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. واصطرع الناس على الموارد الشحيحة، وأغلق الجيران أبوابهم على العمالة اليمنية إلا ما كان من بعضهم وبشروط مشددة تجعل العمال يعملون سخرةً لديهم.
وبدورها فقد انبعثت الحزازات التأريخية المطمورة، حيث انتفضت المناطق التي كانت مركزا للسلطة مطالبة بما تعتقد أنه حقها التأريخي، أو الديني بالنسبة للسلالة الهاشمية، وبدورها فإن المناطق والقبائل التي لم تحصل على نصيب مقدر من السلطة سابقا ثارت حاملةً قميص المظلومية، ومطالبة بحقوقها المهدورة منذ قرون، واستيقظ الحس الوطني ليتحدث عن الأقيال وبطولاتهم ووصل الأمر ببعض المهووسين إلى اعتبار الأسود العنسي بطلا قوميا!
وفي ظل وجود كل هذه الآفات والحزازات بين اليمنيين، بجانب شيوع الفقر المدقع واتساع البطالة الطاغية، وانتشار الأسلحة بشكل كثيف بأيدي أغلب المواطنين؛ فقد وجدت قوى إقليمية ومن خلفها قوى دولية عديدة، وجدت فرصة سانحة لتأديب الشعب الذي خرج بالملايين في رحلة البحث عن الحرية والكرامة؛ وذلك حتى يكون عبرة لمن يفكر من شعوبهم بأن يغادر الحظيرة ويثور ضد ثقافة القطيع، ووجدت أيضاً بيئة خصبة لتصفية الحسابات، بحيث تتحول الحروب الباردة في المنطقة إلى حرب ساخنة في اليمن، وتم التزاحم في البحث عن مناطق نفوذ والتسابق على فرض الهيمنة.
وأظهرت ثورة ١١ فبراير ٢٠١١م بأن الشعب اليمني يتحدى هذه الظروف البالغة التعقيد، حيث خرج بصورة سلمية منتظمة أدهشت كل من تابع الشأن اليمني، مما زاد من حقد القوى المتآمرة في الداخل والخارج، والذهاب إلى إعداد العدة من أجل جعل اليمن محرقة للأحرار، وبالتحريض والمال الخارجي تمّ عقر ناقة التوافق الوطني وإشعال الفتنة بين اليمنيين، وقد تولّى كبر هذه الجريمة الكبرى الحوثيون ومن دار في فلكهم؛ عبر انقلابهم المشؤوم على الشرعيات الثورية والدستورية وعلى التوافقات الوطنية (ممثلة بمخرجات الحوار الوطني) والإقليمية (ممثلة بالمبادرة الخليجية) والدولية (ممثلة بقرار مجلس الأمن الدولي ٢٢١٦). وفي المحصلة فقد قُتل عشرات الآلاف من اليمنيين وجُرح وسجن أضعافهم، بينما تعرض الملايين للتشريد، بعد أن ضُيّقت عليهم البلدة الطيبة بما رحبت.
وحتى تتضح المأساة أكثر فإن أقرب مثال للمأساة اليمنية هو النموذج السوري، الذي شابه وضعه ما يحدث في اليمن من نواحي كثيرة، بفارق أن الأعداد في سوريا أكبر، غير أن ملايين المشردين السوريين من بيوتهم وأرضهم وجدوا من يحتضنهم في تركيا، وكذا في لبنان والأردن والعراق إلى حد ما، أما في اليمن فلم يقبل أحد من جيرانه استقبال أي نازح، باستثناء السودان وجيبوتي اللتين تعانيان أوضاعاً بالغة الصعوبة، هذا إن لم تزد بعض دول الجوار تعنتها ضد المغتربين الذين كانوا يعملون بطريقة شرعية من قبل أن تندلع هذه الأحداث بسنوات عديدة، ويشكلون حائط الصدّ الأول لمنع ملايين الأسر من الموت تحت عجلات الجوع والمرض!
ورغم كل هذه المآسي التي لحقت باليمنيين إلا أن الواقع أثبت أنهم لا بواكي لهم، رغم أنهم الأكثر تجاوبا مع كل أوجاع المسلمين في كل مكان، حيث تقتلهم الحروب المتعددة الهُويات والمآرب، وتفتك بهم الأوبئة والأمراض في ظل انهيار كامل للنظام الصحي، مع العلم أنه كان أضعف من بيت العنكبوت من أيام النظام السابق، حيث قتلت الكوليرا وحمى الضنك والملاريا والحمى الصفراء وحمى الوادي المتصدع وغيرها من الأمراض، قتلت عشرات الآلاف في ظل صمت دولي غريب!
وقد تضافرت في صناعة معاناة اليمنيين جهود أعداء داخليين عديدين، حيث فتحوا الأبواب على مصاريعها للمؤامرات، ولم يترددوا لحظة في أن يكونوا رؤوس حراب لمن أرادوا الانتقام من هذا الشعب الذي كان أبياً وسعيداً ذات زمن، وتآمر أعداء خارجيون إقليميون ودوليون، ونجحوا في اهتبال الفرصة واغتنام القابلية العالية عند اليمنيين للحرب بالوكالة مقابل بعض الأموال التي تقل أو تكثر، وسقط في هذه المحنة مئات الآلاف من اليمنيين بين قتيل وجريح وسجين ونازح ومشرد. ويمكن القول بكل دراية بأن اليمنيين قد تخطفتهم رياح الحروب وهوَت بهم رياح الكوارث في فقر سحيق!
وما زالت الحروب تُنزل باليمنيين أوزارها كل يوم وتمزّقهم كل ممزّق، وتُثخن جراحاتهم التي تقيّحت من كثرة الإهمال، وتخلق لهم المزيد من الكوارث، حيث تفر آلاف الأسر من جحيم الحرب إلى أماكن يملأها الخراب ويستوطنها الجدب ويقتلها العطش، ويعيشون في خيم مهترئة لا تحميهم من حرّ الصيف ولا قرّ الشتاء، ودون أن يجدوا ولياً ولا نصيراً، إذ لم تتداعى الجمعيات والمنظمات الخيرية من أجل إغاثتهم؛ حتى فتك الجوع وسوء التغذية بالملايين، ويمكن في هذا المقام استدعاء بيت شعر قديم لشاعر يدعى صردر:
وكم ناحلٍ بين تلك الخيام
تحسبه بعضَ أطنابها!
وسوم: العدد 873