حين تصبح السفارة الأمريكية أهم من العراق وشعبه
على مساحة 420 ألف متر مربع، وبكلفة تبلغ 750 مليون دولار أمريكي، تم إنشاء السفارة الأمريكية على نهر دجلة في بغداد، التي افتتحت في يناير/كانون الثاني 2009. ويتكون هذا المجمع الدبلوماسي من 21 مبنى، من ضمنها 6 مجمعات سكنية، ومرافق طاقة ومياه، وترفيه، ودور عرض ومطاعم ومركز فنون، وحمامات سباحة، وصالات رياضية وملاعب كرة سلة وكرة قدم.
وما زال حتى اليوم تصميمها سرا لم يعلن عنه، وهو يوفر الاكتفاء الذاتي على كل المستويات في الظروف الطارئة، حيث يوجد تحصين خارجي ضد التفجيرات المحتملة، وتحصين داخلي يوفر الأمان لشاغلي المبنى من الضربات الجوية بالأسلحة التقليدية وغير التقليدية. كما تتولى حمايتها قوة من المارينز، أعدت لهذا الغرض. وقد وصل تعداد العاملين فيها إلى 16 ألف موظف، جرى تقليصهم بعد الانسحاب العسكري الأمريكي في عام 2011. أما من باع الأرض التي أقيم عليها البناء وكيف تمت عملية البيع والشراء، ومن هي الجهة التي أعطت موافقة البيع، فما زالت حتى اليوم غير متداولة وغير معروفة التفاصيل.
المنظومة السياسية في العراق، نشأت نتيجة غزو واحتلال، ومن البديهي أن تكون ضد إرادة الشعب والمصالح العليا للوطن
ومع أن المنشآت الدبلوماسية شيء متعارف عليه في العلاقات الدولية، وهي من موجبات إقامة الروابط الرسمية بين الدول، ودليل تطور وسعة العلاقات، لكن لم يحدث من قبل أن أصبح وجود سفارة أجنبية على أراضي دولة أخرى، إشكالا سياسيا يثير صراعات ونزاعات وتقاطعات بين الطبقة الحاكمة، كما هو حاصل اليوم في العراق. ففي الوقت الذي تتسيد فيه أخبار التهديد الأمريكي بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد على كل الأخبار التي تهم المواطن في هذا البلد، ينقسم المشهد السياسي الداخلي حول هذه المسألة بشكل يثير الاشمئزاز. طرف سياسي يعدد المناقب الحميدة لوجود السفارة، ويردد ما يقوله الأمريكيون من أن الإغلاق يعني توقف المساعدات الأمريكية، وكذلك برامج تطوير الوزارات والمؤسسات العراقية، الذي تقوم به السفارة، إضافة إلى انكفاء البعثات الدبلوماسية الأجنبية ومغادرتها العراق، وبالتالي عزلة دبلوماسية. وهذا الموقف يمثله الساسة الأكراد والزعامات السنية المشاركة في العملية السياسية، وتيار من الإسلام السياسي الشيعي. في حين هنالك أطراف سياسية أخرى توالي إيران، ولديها ميليشيات مسلحة تدعو إلى إغلاق السفارة، ومغادرة كافة الأصول الأمريكية من عسكر ودبلوماسيين ومتعاقدين مدنيين، دافعهم في هذا الموقف تصريحات صادرة من المرشد الأعلى الإيراني أثناء لقائه مع رئيس الوزراء السابق في 6 نيسان/إبريل 2019 تدعو إلى إخراج القوات الأمريكية بسرعة، وكذلك دعوات الساسة الإيرانيين الآخرين التي تصب في الاتجاه نفسه، والتي صدرت بعد مقتل قاسم سليماني بداية العام الجاري. ولأن هذه الأحزاب والميليشيات تعلنان صراحة أنهما جنود المرشد وهو مرجعهما، فقد باتت تصريحاته تلك فتوى دينية ملزمون بتنفيذها، بغض النظر إن كانت تضر العراق أو تنفعه. ويبقى السؤال المهم هنا هو أين المصلحة العراقية في كل هذا العويل الدائر حول السفارة؟
إن المنظومة السياسية في العراق، نشأت نتيجة غزو واحتلال، ومن البديهي أن تكون ضد إرادة الشعب والمصالح العليا للوطن، وبالتالي لا تستطيع هذه النخب الفاسدة البقاء إلا من خلال تحالفها مع القوى الخارجية، التي ظهرت على المسرح السياسي. ولأن المشهد في هذا البلد باتت تحكمه قوتان وحيدتان هما، الولايات المتحدة وإيران، فقد توزعت ولاءات الفاعلين المحليين بين أحضان هاتين القوتين، وأصبحوا المرآة الحقيقية للسلوك السياسي الأمريكي، والسلوك السياسي الإيراني على أرض الوطن. كما بات كل طرف يسعى وبكل قوة لرهن الحالة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية للعراق، بما تمليه عليه مصلحة القوة التي يواليها، فكان أن أدخلوا العراق، وطنا وشعبا، في دروب موحلة وأنفاق موحشة، وفرضوا عليه سياسات ليس له مصلحة فيها. فتحول إلى حالة اللاهوية بعد أن فقد كل عناصره الإيجابية، ولم تعد هنالك سياسة خارجية أو داخلية خاصة به على الإطلاق، ما أوجد حالة من الترقب الدائم على المستوى الشعبي الداخلي كلما حدثت أزمة أمريكية ـ إيرانية، لمعرفتهم المسبقة بأن ساحتهم ستكون ساحة الصراع، وهم من سيكونون وقودها، بعد أن تذهب القوى السياسية إلى الانشطار إلى فريقين، كل فريق يتخذ أحد جوانب الصراع كعامل مساعد ومؤيد له، وحتى على مستوى الدول الخارجية، التي ليست منخرطة في الصراع الإيراني الامريكي فإن هذه الحالة دفعتها لرسم سياساتها تجاه العراق وفقا لهذه المعادلة، معادلة ازدواجية الولاء وثنائية القوة الخارجية المسيطرة.
إن السفارة الأمريكية والميليشيات المسلحة، والحكومة والبرلمان كلها تسير محاطة بعناصر الحماية المادية والمعنوية التي تملكها، إلا الشعب العراقي فهو الوحيد الذي يسير في وادي الموت، من دون ضجة أو اهتمام من أحد، بعد أن غادرت الحقيقة والضمير والغيرة الحكومة والبرلمان، وتزايدت الرغبة الدولية في تجاهل حقائق الظلم والاضطهاد والمآسي، التي تبرز كل يوم على أرض الواقع العراقي. في حين يجد الفاعلان الأمريكي والإيراني أصواتا كثيرة بحت في الدفاع عنهما في البرلمان والحكومة والأحزاب والميليشيات. ففي حين تصفق طهران لميليشاتها، التي تقصف السفارة ومنشآت أمريكية أخرى، يُعبّر وزير الخارجية الأمريكي عن سعادة الولايات المتحدة لفعل الحكومة العراقية المزيد، لحماية السفارة الأمريكية في بغداد. كما تندلع مشادات كلامية ذهبت ضحيتها جلسة برلمانية في الاسبوع المنصرم، بين نواب يشكلون فريقين، فريقا حاضنته واشنطن ويدافع عن وجود سفارتها في بغداد، وفريقا حاضنته طهران، ويدافع عن قصفه السفارة، في حين لا يجد العراقي من بين هؤلاء من يدافع عنه، أو على الأقل يكف عن سرقة ثرواته، ونهب أمواله ومصادرة حاضره مستقبله.
إن لسان حال العراقيين اليوم يقول، لقد وعدتمونا وأسيادكم الأمريكيون والإيرانيون بالديمقراطية والازدهار والحياة الحرة الكريمة، وها نحن بعد 17 عاما نعيش في دولة فاشلة، وفوضى اقتصادية، سمحت للفاسد والمُسلّح فرض سيطرته على البلاد والعباد. ولم يتحقق الانتقال الاقتصادي إلى اقتصاد السوق، وتبخرت الميزانية، وزاد الفقر والعوز. وشكلت طهران مجاميع مسلحة أصبحت فصائل رسمية في القوات المسلحة، وصنعت بدائل لها من كبار المسؤولين في الحكومة والبرلمان، وباتوا مدافعين عن مصالحها ووجودها، وغزت أفكارها البالية الثقافة العراقية والفكر والحياة الاجتماعية والدينية. لذا فإن المدافعين عن الامريكيين وسفارتهم في بغداد، مدعوون للاجابة عن سؤال يقول كيف غيرت السياسة الامريكية وضع العراق خلال السبعة عشر عاما الماضية؟ كما أن المدافعين عن إيران والقاصفين سفارة الأمريكيين في بغداد، مدعوون أيضا للإجابة عن كيف غيرت السياسة الإيرانية وضع العراق للفترة نفسها؟ لكن هذه الدعوة مشروطة بأن يتخلى الطرفان عن الوقاحة كعقيدة سياسية، كي ترى أعينهم الحق حقا والباطل باطلا.
لكن لا تراهنوا على أحد من بينهم، فيقينا من أمضى 17 عاما في خدمة الأمريكيين والإيرانيين على حساب أهله ووطنه، ولم يجد ضميره طوال كل هذه السنين فكيف يمكن أن يجده اليوم؟ وحتى لو وجد ضميره، وهي فرضية مستحيلة، وقال إنه كان مخدوعا بالامريكيين أو الايرانيين، فالمثل يقول (خدعتني مرة، عار عليك. خدعتني مرتين، عار عليّ). أما أن يبقى مخدوعا لمدة 17 عاما فهذا ليس خداعا إطلاقا.. إنه استعباد سياسي وعمالة حد النخاع.
وسوم: العدد 899