هذا هو الفرق بيننا وبينهم
عشنا نحن الأسرى المعاقبين في أسوأ ما يمكن أن يتصوره إنسان سوي من تعذيب واضطهاد ومحاولات إذلال رجال شامخين بوطنيتهم ووطنهم وقيادتهم، أخفتنا السلطات الإيرانية عن عيون اللجنة الدولية الصليب الأحمر والمنظمات الدولية بين 22 شباط 1983 و27 تموز 1988، باستثناء فترة قصيرة تم اخفاؤنا من جانب الاستخبارات الإيرانية إخفاءً مضاعفاً، وذلك عندما وصلت معلومات إلى العراق عن هذه القلعة التي تتلاشى معها كل قصص السجون المعروفة في التاريخ مثل الباستيل، إذ وصلت بعثة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة سيء الذكر خافير بيريز ديكويلار فراحت اللجنة إلى المعسكر ولم تجد فيه أحدا، إذ كررت إيران لعبتها المفضلة على مرّ التاريخ في الغدر والخديعة والتضليل، والمدة التي أُخفينا فيها كانت بين كانون الثاني وشباط 1985، واستمرت 45 يوما إذ أخُذنا إلى معسكر مازدواند في أقصى شمال شرقي إيران على المثلث الإيراني السوفيتي الأفغاني.
أعود لقصتي لهذا اليوم، وفرّ الإيرانيون لقاعتنا التي تحمل الرقم 15، جهاز تلفزيون واستبشرنا كثيراً واعتبرناه مؤشراً على تحسين معاملتهم لنا، ومرّ يوم واثنان وثلاثة وأسبوع واثنان دون جدوى، ولكن جهاز التلفزيون ظل أعمى أخرساً صامتاً صمت أهل القبور، فاستفسر النقيب وليد عبد الكريم البياتي وكان هو “أرشد” قاعتنا لأنه يجيد الفارسية والتركية والكردية إضافة إلى العربية وسريع البديهية وحاضر الحجة ولنا ثقة عالية به، استفسر من جندي الحراسة الداخلية الإيراني عن أسباب الغفوة الطويلة للتلفزيون، فأخبرنا الجندي أن الجهاز مرتبط بجهاز الاستخبارات عبر سيطرة مركزية وهم الذين يفتحوه لنا عندما يقررون، ولا ندري متى يتم ذلك.
في شباط 1986 فوجئنا بأن التلفزيون قد قدح بالضوء، ولكن أي ضوء إنه ضوء أسود؟ فقد عرض الإيرانيون فلما عن احتلالهم لثغر العراق على شط العرب والخليج العربي مدينة الفاو، ولكن هذه المدينة ستكون بعد سنتين بوابة النصر العظيم على فارس التي ستتجرع كأس السم، كان للصور التي رأيناها طعم الحنظل، فقد اختلطت فيها الأفكار من قلق على العراق الحبيب وقطعِ تذكرة لعدة سنوات في زنازين الأسر الرهيبة، كانت المنطقة مغطاة بالثلوج أو هكذا بدا لنا، ثم اتضح لنا لاحقا أنها منطقة المملحة في جنوب مدينة الفاو والتي ترك احتلالها صدمةً مروعةً في نفوس أسرى معلقة قلوبهم بوطنهم، ويرون أن سيطرة عدوهم على شبر إضافي واحد من أرض العراق المقدسة، يعني إطالة محنة أسرهم لزمن لا يعرفه إلا الله.
اتضح لنا أن جهاز استخبارات الأسرى الذي يتولاه مجرم الحرب رو نواز، جلب لنا أجهزة التلفزيون لتكون له عونا في اسقاط المتردية والنطيحة وضعاف النفوس والقلوب من الأسرى في براثن خيانة وطنهم، ولكن القلعة ظلت قلعة للعراق والصمود.، وتواصل عرض الأفلام واللقاءات مع الأسرى العراقيين، ضباطا ومراتب.
واصلت إيران احتفالها بأكبر انتصار حققته في الحرب، وعرفنا أنها تبحث عن أي نصر تسوّقه لشعبها الذي سأم الحرب وملّها، وتفهمّنا دوافعها في هذا التهريج الذي خرج عن كل حدود العقل، فالإيرانيون كانوا يودعون من يذهب إلى الجبهة وداع من لا عودة له.
ولكنّ ما مزق صدورنا شرّ ممزق عندما عرض الإيرانيون فلماً حزّ في أنفسنا أن يصدر هذا الفرح والابتهاج من عربي تصورناه عربيا في المشاعر والانتماء وشاركناه محن الأمة والمحن الوطنية لكل قطر عربي، يوم كان العراقي يعيش انتكاسات الأمة وكأنها محنته الخاصة ولا تقل عن فقدان أب أو أم أو ابن، كان الفلم عن احتفالات شيعة الضاحية الجنوبية في بيروت التي كنا نسميها يوم كانت بيروت عاصمة للذوق والأناقة والجمال، زنبقة المتوسط، نعم احتفلت بيروت الجديدة الوجه واللسان (بانتصار الإسلام على الكفر)، أي انتصار التخلف والجهل على المعرفة والتطور والحضارة، وأقيمت احتفالية اطلاق النار بغزارة لو أن الضاحية المسلوبة العقل والضمير والخلق العربي أطلقته على قوات الغزو الإسرائيلي لكانت حررت آخر شبر من مزارع شبعا في الجنوب وليس في الضاحية الجنوبية.
أذكر أن منطقة كفر شوبا في جنوبي لبنان كانت قد تعرضت لعدوان إسرائيلي مطلع سبعينيات القرن الماضي، فهاجر أهلها وسكنوا في الضاحية الجنوبية فكانوا شارة انطلاق خطة العبث المتعمد في التركيبة السكانية لبيروت، فوقف العراق في ذلك الوقت وهو تحت حكم البعث، بكل ما يملك من قوة لنصرة لبنان وسكان كفر شوبا وتبرع لصندوق اغاثة أهلها، كيف لا وهو يتصدر الخط الأول في مواجهة جرائم الاحتلال ولن يسمح لأحد أن يتقدم عليه في هذا الطريق، فردت الضاحية الجنوبية التي كانت قد أصبحت أوكارا لشياطين الإنس والجن وفي مقدمتهم عباس الموسوي وحسن نصر الله، ولم يكن ذلك آخر عهدنا بهم فقد كرروا فقدان الضمير مع الشعب السوري بعد ثورته على نظام القتل في دمشق.
مرت بخاطري تلك الذكريات ولكنني لم أفكر بأن وطني كان على خطأ أبدا، نعم هؤلاء الأوغاد الذين احتفلوا باحتلال أرض عربية وقتل العراقيين وأكدوا أن الولاء لإيران يتقدم عن كل ولاء وطني وقومي، ففارس صممت برامجها المذهبية على أساس أنه لا وطنية مع الاعتقاد به، هؤلاء سيدفعون ثمن ذلك ذلاً ومهانةً على يدّ من منحوه ولاءهم وتحولوا إلى جواسيس بثمن بخس وما درس عرب الأحواز عنهم ببعيد.
حينها مرت على خاطري الآية الكريمة..
بسم الله الرحمن الرحيم، قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا، صدق الله العظيم.
وسوم: العدد 900