ما بين ثورة يناير والجماعات السلفية المصرية
من الصعب ونحن نتناول الذكرى العاشرة لثورة 25 يناير 2011، وما جرى في سنواتها من تحولات وتفاعلات وما واجهت خلالها من صعاب وتناقضات وكر وفر؛ نعود لنقول تلك طبيعة التحولات الكبرى، وما تبعها من انقلابات، لم تكن مقررة؛ لا يمكن لنا في مناسبة كهذه القفز عليها وعلى ما صحبها من ظواهر؛ كالظاهرة السلفية، ودخولها معتركا لا ناقة لها فيه ولا جمل، وكان معتركا محرما على تيار ومذهب يَكْفر بالسياسة وينفر من السياسيين، مع ذلك دخله، وسعى للاستئثار بثورة يرفضها ويؤيد الركود والجمود ولا يؤمن بالتغيير، ولم يحسِب نفسه، ولم يحسبه أحد، على الثورة ولا على قوى التغيير في يوم ما.
وحين فكرت في تناول ظاهرة «التيار السلفي» الذي لم يخرج يوم 25 يناير 2011؛ حينها شعرت بعبء وهم ثقيل، وأستطيع أن أقول؛ إن السلفيين أذهلهم «الطوفان البشري» وزخم الثورة القادم من كل اتجاه وحاروا في التعامل معه، وسبقتهم قوى هامشية وعناصر مهمشة؛ كالباعة الجائلين و«أبناء الشوارع» وشعروا بخطر الطوفان الجارف، وتهديده لنفوذهم الذي توفر لهم بـ«الزحف الوهابي» النفطي والمسلح، فأغدق عليهم بلا حساب، وحضر التعصب فلازم ذلك الإغداق؛ في مجتمع لم يكن يعرف التعصب، ولم يُجرب الانغلاق، وكشفهم التأخر في الوصول لـ«ميدان التحرير» وحسبتهم الغالبية العظمى من الثوار ومؤيديهم على «الثورة المضادة» بجانب ضعف استعدادهم الفردي والجماعي، ولم يكونوا مهيئين لذلك، وواجهوا منعطفا كان الأخطر في تاريخهم.
والثورة والتغيير في عرف وقناعة السلفيين عمل مشين، وفعل مُحَرَّم شرعا ومُجَرَّم قانونا، ولم تتوقف تنظيماتهم ولا جماعاتهم الطائفية والمذهبية عن دوام شجب الثورة وإدانتها، وذلك مدون في محفوظاتهم وأدبياتهم كـ«فتنة» وخروج على الحاكم بصرف النظر عن استبداده وفساده وتبعيته، وأربكتهم الثورة، وهم يتابعون ويشاهدون زحوفها القادمة من كل فج، متجاوزة ما هو مألوف من التظاهر، ومعتاد في الاحتجاجات، وتحتفظ ذاكرة المخضرمين بمشاهد شبيهة؛ يومي 18 و19 يناير 1977، وطوفان الاحتجاج على رفع أسعار المواد الغذائية والسلع الضرورية، وفوجئ السادات فلم يستطع كظم غيظه، فأطلق عليها «انتفاضة الحرامية».
وجاءت زحوف 25 يناير 2011 مختلفة؛ واعية لما تريد من «عيش وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية» ورافضة لفساد الحكم، واستبداد الحاكم وتبعيته، وتمكنت الملايين من إسقاط حسني مبارك وابنه وعائلته ومن تربعوا على أرائك الحكم لثلاثة عقود، وكانوا قد قرروا الاستمرار بـ«التوريث» لمدى غير معلوم. وكما خرجت ملايين يناير على قلب رجل واحد، أحجمت الجماعات «السلفية» عن الخروج، وتباطأت، وهي التي ركزت أنشطتها في الدعوة والتربية المذهبية والطائفية، ولم تكن السياسة ولا الوعي من اهتمامها أو في أولوياتها، لا نظريا ولا عمليا، ووجدت نفسها متورطة مع ثورة كاسحة، وعليها تحديد موقفها منها، فلجأت إلى ما يمكن تسميته «المشاركة المعاكسة» والسير للوراء «والمشي بالمقلوب» وحق عليهم وصف السلفيين؛ حملة الرايات السوداء علامة الظلام وسواد الحال.
وذلك هو تعريف دقيق للسلفية في مصر من وجهة نظري، ولما فاجأتها الأبواب المفتوحة والنوافذ المشرعة لاختيارات وممارسات؛ لم يتعودوا عليها، وليسوا على دراية بها؛ دخلوا تحالفات لم تكن في واردهم؛ ولم يكونوا على بينة أو خبرة بها على مدى تاريخهم الطويل نسبيا، ووجدوا أنفسهم في معمعة لا يعلمون عنها شيئا؛ أشبه بعميان في غرف مُظلمة، وفي ظلامها شكلوا أحزابهم باختلافها وتناقضها، ولم تكن السياسة مطلبهم، ولا كانت الأحزاب والتنظيمات السياسية مقصدهم، ولم يبق أمامهم إلا التقرب إلى «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» وذلك القرب بدل أحوالهم؛ بعد أن أضحوا يعملون لحساب الطرف الأقوى في معادلة الحكم.
اتسعت دائرة «الجهاد العالمي» وأضحت أساس نشاط «تنظيم القاعدة». وبعد هزيمة القوات الحكومية الأفغانية وانكسار القوات السوفيتية؛ إنتقلت «تجربة الجهاد» إلى بلدان المقاتلين الأصلية
والعمل السلفي قبل 2011 كان موزعا بين ما يعرف بالسلفية العلمية، والدعوة السلفية، والسلفية الحركية، وأنصار السنة، وجماعات أخرى شبيهة، ثم ما استجد مع حرب الخليج وظهور السلفية المدخلية، وعكس ذلك التوزيع خلافات وإختلافات منهجية وحركية وفكرية عقيدية، ومع الثورة ظهرت حاجتهم لخريطة سياسية موازية لاستيعاب التشابكات والتقاطعات والمستجدات.
وتصدع البنيان السلفي بشدة، واندفع سلفيو الإسكندرية وانخرطوا في العمل الحزبي والبرلماني، وهو ما أدانوه في السابق، حين أعلنوا تحريم الديمقراطية ووصفوها بـ«الكفرية» واشتد الجدل بينهم على تحريم العمل البرلماني والسياسي والحزبي، إلى غير ذلك من مسائل، وضمن ذلك الواقع بدأ الحديث عن «السلفية السياسية» وهو قول غير دقيق؛ لكونه يجمع قوى لا علاقة لها بطوائف ومذاهب ذات أصل ديني، فمثلا أحزاب المحافظين في الغرب من الممكن أن تندرج تحت مفهوم السلفية السياسية.
ويصف ستيفان لاكروا المختص بالحركات الإسلامية المعاصرة بمعهد العلوم السياسية في باريس (في 01 نوفمبر 2016) سلوكيات الحركة السلفية في مصر بأنها تشي بميوعة، وأحياناً تَناقُضِ ديناميكيات التبرير المذهبي للمواقف السياسية المُتخذة. ففي غضون سنوات مضت، انتهج حزب النور السلفي مقاربة براغماتية ومرنة في العمل السياسي، لكنه حافظ على تشدده الديني. وعلى الرغم من إقدام الحزب على اتخاذ قرارات قدّم من خلالها تنازلات سياسية عدّة تسير في عكس ما يتبنّاه التيار السلفي، إلا أن السلفيين اعتبروا ذلك مجرّد خطوات تُمليها الضرورة لحماية مصلحة الدعوة. وحَظي ذلك بمباركة واسعة من «جماعة الدعوة السلفية» على حد قوله، وتُمَثِّل المرجعية الدينية لحزب النور السلفي(!!). ويعتبر الكاتب وليد طوغان (في 2019/08/13)، رسالة الدين تقدمية، ودعوة التيار السلفي غير ذلك وصريحة في الدعوة للرجوع إلى الخلف تمسكا بسلوك السلف «الصالح»(!!).
ونعرض سريعا لإشكالية الحركات «السلفية الجهادية السنية» وهي على صلة بالسلفية المصرية، فجذورها نبتت في مصر؛ مطلع سبعينيات القرن الماضي، حين تشكلت الجماعات الإسلامية في الجامعات، ورعاها السادات ورجاله من أمثال المقاول عثمان أحمد عثمان، والمحامي محمد عثمان اسماعيل، وكانت تلك بداية مصرية تطورت نهاية السبعينيات وكونت «مجموعات جهادية» استهدفت تغيير نظم الحكم في «القارة العربية». واتخذوا من كتيب صغير كتبه محمد عبد السلام فرج دليلا نظريا لتلك الجماعات والحركات.
وجاء فيه إن المسلمين «يلتزمون بكثير من الفرائض الدينية، لكنهم غيبوا فريضة أساسية وهي الجهاد». ودعا لاستحضارها، وإعطاء الأولوية لقتال العدو القريب، ويعني بذلك النظم الحاكمة في الدول ذات الغالبية المسلمة؛ أُعْطِي قتال العدو القريب الأولوية على قتال الأعداء الخارجيين، أو العدو البعيد. ومثلوا في تلك الوقت نمطاً انقلابياً أكثر منه حركة سياسية منظمة. وعلى ذلك النمط تم تنفيذ اغتيال السادات في اكتوبر عام 1981.
وتغير الحال بعد إغتيال السادات، خرج «جهاديو مصر» إلى أفغانستان، التي تحولت لـ«ساحة دولية للجهاد» تدعمها الولايات المتحدة، والسعودية ودول الخليج ومصر، وتوفرت إمكانيات سفر المقاتلين وإقامتهم وتدريبهم وتسليحهم لاستنزاف القوات السوفييتية، ومقاومة الحكومة الأفغانية الموالية لموسكو، وأمدهم الشيخ عبد الله عزام بالفتاوى.اللازمة، وركزت على أن القتال «فرض عين» إذا ما احْتُلَّت أي أراضي لدولة إسلامية.
وكان عزام قد أطلق دعوة لتأسيس «قاعدة صلبة» للقتال في أفغانستان ومنها استمد تنظيم القاعدة اسمه. وراح عزام، ضحية سيارة مفخخة عام 1989. ولم يتبن أحد مسؤولية اغتياله حتى الآن.
واتسعت دائرة «الجهاد العالمي» وأضحت أساس نشاط «تنظيم القاعدة». وبعد هزيمة القوات الحكومية الأفغانية وانكسار القوات السوفيتية؛ إنتقلت «تجربة الجهاد» إلى بلدان المقاتلين الأصلية، واستهدفت السياحة في مصر، وجرت مواجهات في ليبيا، ثم وصلت السعودية، وتم ضبط كثير من خلايا «تنظيم القاعدة» في الأردن، وطال الجزائر، وتشكلت جماعات مسلحة في أماكن أخرى؛ شاركت في القتال في البوسنة، وطاجيكستان، والشيشان. وتزاوجت «الأفكار الجهادية المصرية» مع توجهات «السلفية السعودية الخليجية» فوُلِدت «السلفية ـ الجهادية»!!. وتُرجم ذلك لاحقاً باندماج بين المصري زعيم تنظيم القاعدة حاليا أيمن الظواهري، وقائده السابق، الداعم لـ«الجهاد الأفغاني» أسامة بن لادن!
وسوم: العدد 915