دلالة ربط المسؤولية بالمحاسبة من منظور إسلامي
عبارة " ربط المسؤولية بالمحاسبة " من العبارات الأكثر تداولا في كل المجتمعات خصوصا في الأوساط المنوطة بها المسؤوليات المختلفة . ولا بد في البداية من تعريف لغوي لألفاظ هذه العبارة قبل الخوض في بسط الحديث فيها .
الربط : لغة هو الوصل والتوحيد بين شيئين سواء كان ماديين أو معنويين كالربط بين حيزين أو بين فكرتين أو بين قلبين ، ويكون الرابط مما يناسب طبيعة المربوطين .
والمسؤولية: لغة وهي مصدر صناعي تعني حالة أو صفة أو مهمة من يسأل عمّا تقع عليه تبعته .
والمحاسبة : لغة وهي من فعل حسب إذا أحصى وعدّ وصيغتها المفاعلة من فعل حاسب على صيغة " فاعل " التي تدل على المشاركة غالبا ، وهي أن يفعل الواحد بالآخر ما يفعله به هذا الأخير أيضا ، فيكون كل منهما فاعلا ومفعولا . وهذا يعني أن المحاسبة لا تكون من طرف واحد كما يعتقد الكثير من الناس ، إلا في حالة واحدة حين يتعلق الأمر برب العزة جل جلاله لقوله عز من قائل في محكم التنزيل : (( لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون )) . و المسؤولية محاسبة . ويكفي أن يقال للإنسان أنت مسؤول ليكون القصد أنت محاسب .
ويتبين من رصف أو صياغة هذه المفردات الثلاث في عبارة واحدة أن بين المسؤولية والمحاسبة صلة أو رابط بحيث لا توجد إحداهما إلا بوجود الأخرى ، ولا يمكن الحديث عن إحداهما لوحدها دون الأخر ذلك أن كل مسؤول محاسب حتما وبالضرورة ، الشيء الذي يعني أن كل من طلب أو سأل مسؤولية مهما كانت وجب عليه أولا أن يقدر ما تقتضيه من محاسبة ، وهو ما لا يخطر على بال الكثير من الناس إذ يرغبون في المسؤوليات و لكنهم يغفلون عمّا تقتضيه من محاسبة لأنهم يعتبرون المسؤوليات تشريفا لا تكليفا ، ولا يعنيهم منها سوى ما قد يكون فيها من امتيازات ومصالح ، لهذا لا يرغب العقلاء الأكياس في المسؤولية بينما يتهافت عليها غيرهم ممن لا كياسة لهم ، وغالبا ما تتحول السعادة بالمسؤولية إلى ندم وحسرة أثناء المحاسبة .
ولقد ورد في كتاب الله عز وجل أن الإنسان بطبعه يرغب في المسؤولية دون تقدير ما دونها من محاسبة ، وذلك في قوله تعالى : (( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )) ، وقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة أن الله تعالى عرض مسؤولية على هذه المخلوقات العظيمة على أساس أنها إذا أحسنت أثيبت وإذا ضيّعتها عوقبت، فأبت إشفاقا من المحاسبة إلا أن الإنسان بطبيعة ضعفه قبلها جهلا منه بعاقبة المحاسبة ، وذلك ظلم في حق نفسه ، ولا يظلم نفسه إلا جهول.
ولقد كلف آدم وزوجه عليهما السلام بمسؤولية وهما في الجنة ، وحذرا من المحاسبة عليها لكنهما نسيا هذا التحذير ، فكانت المحاسبة وكان الجزاء وقد رأف بهما فيه رب العزة جل جلاله . وأعطي آدم وزوجه وذريتهما فرصة أخرى فوق سطح هذا الكوكب لمواجهة الاختبار في مسؤوليات خلال الحياة الدنيا وهي تقتضي المحاسبة في الحياة الأخرى .
والناس في هذه الحياة الدنيا قد يربطون المسؤولية بالمحاسبة في قوانينهم التي يضعونها ، وقد تحصل هذه المحاسبة، وقد لا تحصل ولا تعدو الحبر على الورق فيفلت منها من يفلت ،وقد لا تكون محاسبة كما يجب بحيث تعتريها العيوب، فتزيد أو تنقص عن الحد أو عن المطلوب منها . ولا يمكن أن يحصل عدل في المحاسبة مهما كان الحرص على تحقيقه إلا أن محاسبة الخالق سبحانه وتعالى للخلق في الآخرة عما قلدوا من مسؤوليات لا ظلم فيها، لأنه قد حرم جل وعلا على نفسه ظلم العباد .
ومما يغفل عنه كثير ممن يقلدون مسؤوليات في هذه الحياة الدنيا محاسبة الخالق سبحانه وتعالى لهم عليها في الآخرة ، ولا يهتمون إلا بمحاسبة الدنيا التي تكون من طرف مخلوقين مثلهم ، ويعتقدون أن ملف المحاسبة عن المسؤوليات يغلق بشكل نهائي في الحياة الدنيا ، ولا يفتح مرة أخرى في الآخرة ، وهذا وهم منهم وغفلة . ولا يعتقد هذا الاعتقاد الخاطىء سوى الذين يفصلون الدنيا عن الآخرة أو الذين لا يؤمنون بالآخرة أصلا، وهؤلاء يصدق عليهم قول الله تعالى : (( إنهم كانوا لا يرجون حسابا )) أي لا يعتقدون بوجود محاسبة عمّا أنيطوا به من مسؤوليات ، علما بأن الجميع مسؤول ومحاسب عن مسؤوليته كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسوؤل عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته" . والمسؤولية في هذا الحديث تعني المحاسبة بين يدي الله عز وجل يوم العرض عليه .
فكم ممن يقلدون المسؤوليات في مجتمعنا يضعون نصب أعينهم المحاسبة بين يدي الله عز وجل يوم العرض عليه ؟ فقد يفكرون في المحاسبة في الدنيا ،وهي محاسبة الخلق ويحذرونها أو يتملصون منها بطريقة أو بأخرى بتزوير أو تمويه أو يغض عنهم الطرف من طرف أجهزة المحاسبة محاباة أو مشاركة لهم في تضييع المسؤوليات لوجود مصالح مشتركة بين من يحاسب ـ بفتح السين ـ وبين من يحاسب ـ بكسر السين ـ . ولا يخطر لهم على بال أن ملف المحاسبة لا يمكن أن يصفى، ويغلق نهائيا إلا يوم العرض على الله عز وجل .
وكم من الناس تعرض عليهم مسؤوليات فيأبونها ويشفقون منها كما فعلت السماوات والأرض والجبال ؟ أليس كثير من الناس يتطلعون إلى مسؤوليات فوق ما يطيقون وما يحسنون دون شفقة على أنفسهم من جسامتها وخطورة المحاسبة عليها في الدنيا وعلى وجه الخصوص في الآخرة ؟
ألا يجدر بمن يعتقد بمحاسبة الآخرة إذا ما عرضت عليه مسؤولية من المسؤوليات أو قلدها وهو ليس أهلا لها أن يشفق على نفسه منها، ولا يظلمها بتقلدها ،علما بأنه لا يقدم على ظلم نفسه إلا جهول ؟
وسوم: العدد 915