فلسطين وخيارات المرحلة الراهنة .. هل من مشروع بديل؟
ما هي إلا أيام وأسابيع، وينتهي ضجيج الانتخابات الفلسطينية وصخبها، ويتضح أنها لم تكن قادرة على الإجابة عن الأسئلة المصيرية. وفي أكثر التوقعات تفاؤلًا، إن فُتحت صناديق الاقتراع في وقتها، ولم يتم تأجيلها، فإنها قد تدير الانقسام من دون أن تحقق المصالحة، وقد تفتح الباب للعودة إلى دائرة المفاوضات، من دون أن تتقدّم هذه خطوة واحدة على طريق تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. قد تتغير الوجوه، من دون أن تتغير البرامج، وستكتشف قوى وفصائل حجمها الحقيقي، لكنها على الأرجح ستبقى كما كان حالها سابقًا، تحاول البقاء في المشهد من دون تأثير يذكر فيه، ولن تتحقق وحدة الشعب فيها طالما أن انتخاب رئيس "دولة" فلسطين، لا يشارك فيه سوى ثلث الشعب الفلسطيني، مع غياب فلسطينيي الشتات وفلسطينيي الداخل المحتل منذ عام 1948، وما دام المجلس الوطني الفلسطيني يعيَّن أعضاؤه وفق نظام المحاصصة، ويتم تغييب منظمة التحرير، والعبث ببرنامجها، والاستمرار في تجربة المجرّب، والحيلولة دون بناء مشروع وطني فلسطيني مقاوم، يستند إلى التمسّك بالرواية التاريخية للشعب الفلسطيني في مواجهة الرواية التوراتية الصهيونية، ويستكشف حلقة نضاله المركزية، ويطوّر أشكالها وأساليبها. ما يجري الآن ليس سوى فترة قصيرة المدى، سنكتشف نتائجها سريعًا، وربما تفتح الباب أمام تفكير جدّي، وممارسة عملية، باتجاه السعي إلى بديل وطني قادر على النهوض من تحت ركام اتفاق أوسلو، وبراثن التنسيق الأمني، ومحاولات التطبيع العربي مع العدو الصهيوني.
في واقعنا الراهن، هناك من لا يزال متمسكًا بحل الدولتين، باعتباره يمثل جوهر المشروع الوطني الفلسطيني، على الرغم من المدى الزمني الطويل الذي ظل فيه هذا الحل سائدًا في فكر الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. ولعلنا نستطيع القول إن البداية لم تكن باتفاق أوسلو، وإنما قبل ذلك، منذ تبنت الفصائل الفلسطينية برنامج النقاط العشر عام 1974، حين تخلت عن شعار تحرير كامل التراب الفلسطيني عبر الدعوة إلى إقامة سلطة فلسطينية وُصفت يومها (ويا للمفارقة) بأنها مقاتلة، وبأنها ستُقام على أي بقعة أرض "تتحرّر"، مع يقين القيادة الفلسطينية أنها، إن أُقيمت، فستكون في الضفة الغربية وقطاع غزة، وستتم محاولة استعادتها عبر الانخراط في مشاريع التسوية. ومنذ ذلك التاريخ، سلكت هذه القيادة مسارًا متعرّجًا مزج ما بين التصدّي لمحاولات التصفية الصهيونية والرغبة في اللحاق بقطار التسوية، وحجز مقعدها فيه. وتخلل ذلك قتال ودفاع عن مواقع الثورة الفلسطينية المسلحة، وتنازلات متدرّجة تعاظمت حتى أصبحت هي الوجه الغالب منذ إعادة إنتاج "أوسلو" في عهد الرئيس محمود عباس، حيث فقد هذا المشروع جميع حيثيات وجوده واستمراره، مع فشل المفاوضات العبثية في تحقيق أي منجز، وسط تغوّل الاستيطان، والاستيلاء على أكثر من 70% من مساحة الضفة الغربية بذرائع متعدّدة، مع ثمانمئة ألف مستوطن يهودي، بحيث تحوّلت إلى نقاط منفصلة جغرافيًا، تنهي أي إمكانية واقعية لإقامة دولة، كما جاء في تقرير "بتسيلم" (منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية).
ثمّة اتجاه متزايد في أوساط من آمنوا بحل الدولتين يميل إلى انتقاد اتفاق أوسلو، وصولًا إلى رفضه، والمطالبة بإلغائه، وسحب اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، كما عبّرت عن ذاك قرارات المجلس المركزي الفلسطيني المتكررة، قبل أن تنكص عنها السلطة الفلسطينية، وتعود إلى ما كانت عليه قبل مايو/ أيار 2020، بما فيها التنسيق الأمني، وأموال المقاصّة الضريبية، ووفق الشروط الإسرائيلية. على أن الاتجاه الغالب في هذا التيار ما زال يعتقد أن في اتفاق أوسلو إيجابيات، أهمها "اعتراف" إسرائيل بالشعب الفلسطيني، كما قال صائب عريقات مرارًا، مفسّرًا ذلك بأن اعترافها بتمثيل المنظمة الشعب الفلسطيني في المفاوضات هو بمنزلة اعتراف صهيوني بوجود شعب فلسطيني! في حين يعتقد آخرون أن إسرائيل هي التي تعمل على تقويض اتفاق أوسلو، فلماذا يلغيه الفلسطينيون، وتمنح مبرّرا لتقويض السلطة شرعيتها المبنية على هذا الاتفاق؟ على أن النقطة الأهم هنا أن أغلب من ينتقدون مسار المفاوضات، وتعثر السلطة وعجزها، من مؤيدي حل الدولتين، إنما يتخذون هذا الموقف، احتجاجًا على أسلوب الأداء وكفاءة الأشخاص المفاوضين، وليس على الاستراتيجية ذاتها (ناصر القدوة مثالًا)، فالمشكلة، في نظرهم، هي في الأشخاص وليس في البرنامج. وهم يبرّرون تمسّكهم بهدف حل الدولتين برغبة المجتمع الدولي وتأييده "اللفظي" ذلك، متناسين أن هذا التأييد، على أهميته، لم يفلح في تجميد الاستيطان يوما واحدا، أو في تفكيك مستوطنة واحدة قائمة.
يقتصر الحديث هنا على الاتجاه العام لهذا البرنامج، متجنبين التطرّق لبعض الذين يعتبرون هذا الحل بمنزلة فزّاعة، يظنون، والظن هنا إثم كبير يتجاوز بعضه، أنهم قادرون على التلويح بها لإخافة الإسرائيليين، وحملهم على القبول بحل الدولتين، باعتباره أهون الشرّين، أو استخدامها للتقليل من مخاطر الاستيطان ودوام الاحتلال، ما دام الجميع سيعيشون في دولة واحدة، فتلك اتجاهات هامشية لا تستحق التوقف عندها.
المقصود هنا ببرنامج الدولة الواحدة هو الذي يعتبر أنه امتداد لفكرة منظمة التحرير الفلسطينية، أوائل سبعينيات القرن الماضي، والمتعلقة بإقامة دولة ديمقراطية، وصفها بعضهم في حينه بالعلمانية، تتعايش فيها جميع الأديان، مع تطوير لهذه الصيغة، بحيث تتحدّث عن دولة ديمقراطية واحدة على الأرض الفلسطينية كاملة، ولسكانها على اختلافهم وتعدّدهم، مع مناداتها بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، ورفضها الصهيونية، في الوقت الذي تعترف فيه بنشوء قومية يهودية في فلسطين، وإن لم تكن اليهودية قومية في الأصل.
يعتقد أنصار هذا التوجه أن واجبهم يكمن في تقديم حل إنساني "عادل" للقضية الفلسطينية، يعالج أيضًا مشكلة "المواطنين" اليهود. وهي أفكارٌ تلتقي، في بعض جوانبها، مع حلولٍ أخرى، مثل دولة لجميع مواطنيها، ودولة ثنائية القومية، وشعبين في دولة واحدة. وهي جميعها تنطلق من الرغبة ذاتها في تقديم صيغ منطقية لحلول مستقبلية، في محاولةٍ لإحراج الخصم المتمثل في الجانب الصهيوني المهيمن والمسيطر، وكسب تأييد المجتمع الدولي لها. ولا شك في أن ثمة أفرادًا يهودًا يساريين متحرّرين من الصهيونية، وغالبيتهم من الوسط الأكاديمي، مؤمنون بهذه الأفكار، لكن من غير المحتمل أن تحقق مثل هذه الأفكار اختراقات مهمة داخل الوسط اليهودي الذي يتجه أكثر فأكثر نحو اليمين الصهيوني الديني.
هنا تبرز أسئلة عدة؛ هل المرحلة هي مرحلة طرح حلول؟ هل موضوعنا نظري إلى درجة التخيّل أن طرح صيغة منطقية لحل الصراع قد تشكل مفتاحًا لهذا الحل؟ وهل يتفق ذلك مع فهمنا للحركة الصهيونية؟ وهل على الضحية أن تقدّم حلًا للجلاد، خارج إطار تحرّرها من قبضته؟ وكيف يمكن أن تحقق هذه الحلول اختراقًا داخل المجتمع الصهيوني، من دون مراكمة النضال، وإحداث تغيير واضح في ميزان القوى، قد يدفع فئاتٍ منه إلى الاعتراف بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني؟ فالسؤال هنا بشأن أولويات العمل والنضال، أما الحلول فلم يئن أوانها بعد، وأوانها مرهونٌ بتغيرات كبرى. حتمًا لا ينبغي وجود أفكار عن إلقاء اليهود في البحر، وجل التركيز في هذه المرحلة يجب أن ينصب على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وضرورة الاعتذار عن الجرائم التاريخية التي ارتُكبت بحقه، والسعي إلى مراكمة النضال الفلسطيني، وفضح الممارسات الصهيونية التي تشكّل بمجموعها نظام أبارتهايد يفرض نفسه على الشعب الفلسطيني كله.
ثمّة مخاوف أخرى مشروعة تدور حول كيفية حماية فكرة الدولة الواحدة من الوقوع في شرك المساواة في الحقوق المدنية، والحصول على بعض مكتسبات صغيرة في الإطار الثقافي، مع استمرار الهيمنة الصهيونية على جميع مناحي الحياة، وهو ما يُلاحظ حاليًا في ممارسات بعض القوى والأحزاب العربية، مثل التصويت لبيني غانتس، أو الوقوع في فخ الأسرلة، بذريعة تحقيق خدمات للمجتمع العربي، بحيث تُختزل قضيتنا من قضية شعب يطالب بالتحرّر وبحقوقه التاريخية إلى قضية حقوق مدنية.
وبشأن الكفاح المسلح، من حيث المبدأ، شأنه شأن جميع أشكال النضال، يمثّل شكلًا مشروعًا لجميع الشعوب التي تقاتل من أجل حريتها، وفي طليعتها الشعب الفلسطيني الذي يقاتل ضد الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإحلالي. وقد كانت مرحلة الكفاح المسلح في الستينيات، والسبعينيات، وأوائل الثمانينيات، مرحلة ذهبية في تاريخ الشعب الفلسطيني، وثمّة حنين لدى بعضهم بالعودة إلى تلك المرحلة وذلك البرنامج. لم تعد قواعد الارتكاز في دول الطوق المحيطة بالكيان الصهيوني (الأردن وسورية ولبنان) موجودة أو متاحة للعمل الفلسطيني المسلح كي ينطلق منها؛ الكفاح المسلح من الخارج إلى الداخل الفلسطيني لم يعد ممكنًا، وهو يحتاج متغيرات عربية، وربما إقليمية كي يعود، وحتمًا ليس بالأشكال والأساليب السابقة ذاتها.
في الانتفاضة الثانية، نفّذت الفصائل والكتائب الفلسطينية، على تعدّدها، عمليات عسكرية بطولية ضد العدو الصهيوني، تراوحت ما بين العمليات الاستشهادية في العمق الإسرائيلي، والدفاع عن المدن والمخيمات الفلسطينية، وقد حظيت هذه العمليات في بداية الانتفاضة بدعم وتأييد من الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي اعتقد أن بإمكانه من خلالها إجبار الحكومة الإسرائيلية على تقديم بعض التنازلات له، بعد فشل مباحثات كامب دايفيد، لكن الحكومة الإسرائيلية لم ترضخ لذلك، ولم تكن لدى القيادة الفلسطينية استراتيجية واضحة ترتقي إلى مستوى البطولات السابقة. كان الهدف انتزاع بعض التنازلات، والعودة إلى المفاوضات، ونتيجة هذا الموقف الذي يميل إلى التصعيد يومًا، ومن ثم يعود ويرضخ للضغوط، فيطلب التهدئة، فقدت القيادة السيطرة والتوجيه، وحوصر ياسر عرفات ثم قتل، وتآمرت قيادات السلطة على الانتفاضة. الانتفاضة الثانية مرحلة مجيدة في تاريخ الشعب الفلسطيني، لكنها ما زالت بحاجة إلى التقويم والمراجعة والنقد، واستعادة دروسها الثمينة، على الصعيدين العسكري والسياسي، ورواية قصصها الحقيقية.
في قطاع غزة، نمت وتطورت تجربة مختلفة على الصعيد العسكري، فقد تصدت المقاومة في غزة لثلاثة اجتياحات صهيونية، وأسست خلالها بنية عسكرية منظمة، وبنت شبكات من الأنفاق، وطورت قدراتها الصاروخية، بحيث أضحت تشكل قوة ردع قادرة على الوصول إلى مختلف المدن الإسرائيلية، وشل الحياة في الجبهة الداخلية للعدو الصهيوني.
الجهد العسكري في غزة إنجاز كبير، ينبغي المحافظة عليه، والتمسّك به، وعدم إخضاعه لمساومات الانقسام والمصالحة والسلطة، والحذر من تلك الحلول التي تستهدف احتواء هذا السلاح، وتفكيك شبكات المقاومة. الجهد العسكري في غزة دفاعي بالدرجة الأولى، واستخدامه أحيانًا لفكّ الحصار أو تخفيفه هو أيضًا إجراء دفاعي، فالحصار والتجويع هما من الأعمال الحربية بامتياز. أما الحديث عن كون هذا الفعل العسكري جزءًا من فعل أكبر على مستوى المنطقة، فهو أمر متروك للتطورات في المنطقة والإقليم، ولا يمكن التنبؤ به الآن، ولكن حسبنا أن نذكر أن عملًا مشتركًا لم يحدث سابقًا لدى تعرّض غزة لثلاث حروب، أو لدى تعرّض جنوب لبنان للاجتياح، فالأمر أكثر تعقيدًا مما يبدو، ولندعها متروكة لوقتها.
شهدت الضفة الغربية أيضًا أشكالًا للفعل العسكري، بعضها تشكّل من محاولات متفرّقة ومتباعدة لعمل عسكري منظم، أما الوجه الرئيس فكان تلك العمليات الفردية المجيدة، من طعن بالسكاكين، ودهس بالسيارات والشاحنات، وحوادث إطلاق النار، في ما يمكن أن نطلق عليه اسم "عمليات الذئاب المنفردة"، وهذه ستستمر وتتصاعد باستمرار الاحتلال، ولعلها البديل الشعبي لظاهرة الكفاح المسلح.
مما سبق، نخلص إلى أن استعادة الكفاح المسلح برنامجا كاملا، وحلقة مركزية للنضال الفلسطيني في المرحلة المقبلة، أمر متعذّر، وغير عملي، ولا يتواءم مع الظروف الحالية، لكن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة تمكّن من اجتراح أشكال وأساليب أخرى لا تقل أهمية عن المرحلة السابقة.
تتعدى إشكاليات رؤية الوضع الحالي مسألة البرامج والتصورات إلى الأدوات، والفصائل التي تحملها وتنهض بها، إذ تعاني الساحة الفلسطينية من سلطةٍ عاجزةٍ تحمل مشروع حل الدولتين، وهي لا تنعم بالحد الأدنى من الحكم الذاتي الفاقد جميع مظاهر السيادة، على نحوٍ ينذر بتحولها، وعبر سياسات التنسيق الأمني، والتعاون الاقتصادي، إلى جيوبٍ معزولةٍ خاضعةٍ لإرادة الاحتلال وهيمنته كليا، ما لم تتحوّل إلى سلطة خدمات للشعب الفلسطيني، تؤدّي دورًا شبيهًا بدور البلديات، بعيدًا عن أي دور سياسي، أو تنسيق أمني مع العدو، وتستعيد منظمة التحرير دورها القيادي النضالي بعد إعادة بنائها. أما الفصائل، فقد ترهل أغلبها، ولم تعد تمثل سوى ماضٍ مجيدٍ تعيش على ذكراه، لكنها غير قادرة على تجديده أو الاحتفاظ به.
يجب أن تنطلق أدوات المشروع الفلسطيني الجديد من ميادين النضال، وعبر تصعيد المقاومة الشعبية، وأشكال النضال الأخرى، بحيث تفرز هذه الميادين أدواتها النضالية، وقياداتها الجماهيرية، وهي مهمةٌ تقع على عاتق جيل الشباب، بالدرجة الأولى، في فلسطين والشتات.
وسوم: العدد 921