لا يمكن أبدا أن يكون منحاز صالحا للوساطة بين طرفي نزاع
من الأمور المتعارف عليها بالإجماع في كل المجتمعات البشرية قديمها وحديثها أن التوسط بين طرفي نزاع مهما كان نوعه من أجل إنهاء النزاع بينهما يقتضي لزوما وبالضرورة حياد الوسطاء حيادا مطلقا يحول دون ترجيح كفة طرف على كفة الطرف الآخر. وعلى قدر التزام الوسطاء بالحياد المطلق ووجودهم على نفس المسافة بين طرفي النزاع ، يكون بالإمكان التوصل إلى إنهاء النزاع بينهما نهاية ترضي الطرفين معا . ووجود أدنى قدر من الانحياز أو الميل إلى أحد الطرفين سواء كان جليا أو خفيا ،صريحا أو ضمنيا ، يكون بالضرورة سببا في فشل وساطة الوسطاء بل يكون سببا في تعميق هوة الصراع بين طرفي النزاع .
وليس من السهل ولا من المتيسر توفر الوسطاء المحايدين حيادا حقيقيا بين أطراف متنازعة ،لأن الانحياز متأصل في الطبيعة البشرية لا ينفك عنها أبدا .
ولا يوجد الحياد المطلق إلا عند رب العزة جل جلاله ، وعند من اصطفاهم من رسله وأنبيائه صلواته وسلامه عليهم أجمعين بتوجيه منه، وبرعايته بما خصهم به من عصمة تعصمهم مما لا يعصم منه بقية الخلق .
ويحث الله سبحانه وتعالى على توخي الحياد وعدم الانحياز في كل نوع من أنواع الوساطة التي يراد من ورائها إنهاء النزاع بين طرفين متنازعين أو أطراف متنازعة . ومن أمثلة حثه على ذلك جل وعلا تمثيلا لا حصرا قوله في محكم التنزيل في سياق الحديث عن النزاع الذي يحصل بين زوجين يكون سببه نشوزا صادرا عن أحدهما قد يتسبب بدوره في شقاق بينهما حيث يأخذ كل واحد منهما شقا غير شق الآخر أو ناحية غير ناحيته ، وهو ما يعني نهاية عشرتهما أو حياتهما الزوجية : (( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا )) ، ومعلوم أن الحكمين المنصوص عليهما في هذه الآية الكريمة يجب أن يكونا قاضيين يقضيان في أمر النشوز ، وليس وكيلين أو شاهدين كما جاء في كتب التفسير والفقه ، ومعلوم أنه من مقتضيات القضاء الحياد والتجرد وعدم الانحياز والنزاهة .
ومن تشديد الله عز وجل على اعتماد الحياد وعدم الانحياز والتجرد والنزاهة في التحكيم ،وهو قضاء ووساطة ألا يقضي من يحكّم أو يتوسط وهو منحاز قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )) ،وفي هذا القول منع إلهي صريح للانحياز حتى في حال وجود شنآن أو عداوة بين من يكونون وسطاء أو حكاما أو قضاة، وبين طرف من طرفي النزاع أو أطرافه . وكما أنه لا يصلح للقضاء من كانت له عداوة أو شنآن مع أحد طرفي النزاع ، فإنه لا يصلح لذلك الوسيط بينهما أيضا لأن هذه العداوة أو الشنآن يحولان دون حصول التجرد والحياد.
فأين نحن اليوم من عدل الإسلام في القضاء والحكم والوساطة بين المتنازعين في عالم لا حياد فيه ولا تجرد، وإنما يطغى عليه الانحياز الفاضح والصارخ بين الأفراد وبين الأمم ؟
ولنأخذ كمثال قضية الصراع الفلسطيني الصهيوني الذي انتدب الغربيون أمريكيون وأوروبيون أنفسهم وسطاء فيه بين الطرفين مع أنهم ليسوا أهلا لذلك لأنهم منحازون كل الانحياز للطرف الصهيوني . وأول انحياز لهم هو انحياز الانجليز الذين كانوا يحتلون أرض فلسطين ضمن ما كانوا يحتلونه من البلاد العربية ، فحملهم انحيازهم للصهاينة على تسليمها لهم على طبق من ذهب كما يقال ، وهو ما جعلهم يطردون معظم أهلها ويشردونهم منها . واستمر بعد ذلك انحياز كل دول أوروبا الغربية للصهاينة بزعامة الولايات المتحدة حتى بلغ الأمر بهذا الانحياز حد تكوين كيان عنصري عدواني في قلب الوطن العربي مسلح بأحدث أنواع الأسلحة بل مالك لكل أنواع أسلحة الدمار الشامل بما في ذلك السلاح النووي ، وهو ما أطغاه ، وجعله يمارس أشرس أنواع العدوان على الشعب الفلسطيني والذي فاق كل أنواع العدوان التي عرفها التاريخ القديم والحديث .
ومن فضائح انحياز الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية للكيان العنصري الصهيوني أنها تتعامل معه على أساس أنه ضحية وهو في الحقيقة جلاد ، ذلك أنها في عز عدوانه الأخير على قطاع غزة بمئات الطائرات الحربية وبكل أنواع الأسلحة الفتاكة برا وبحرا، تحدثت عن حقه في الدفاع عن نفسه دون الحديث عن حق المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن نفسها هي الأخرى ، علما بأن تلك المقاومة ردت على عدوان الصهاينة على اعتداءاتهم المتكررة على المصلين في المسجد الأقصى، وعلى سكان أحياء القدس من أجل تهجيرهم كما هجّروا الملايين من الفلسطينيين منذ سنة 1948 أمام مرأى ومسمع العالم بما فيه العالم الغربي المنحاز للكيان المحتل انحيازا فظيعا .
فهل يصلح من يقول عن عدوان شرس قتل الإنسان ودمر العمران أنه يدافع عنه نفسه وسيطا بين طرفي النزاع في فلسطين ؟. وكيف يمكن أن يطرح هذا النزاع على طاولة النقاش ، والوسطاء منحازون له كل هذا الانحياز المخزي؟
إن البث في مشكل القضية الفلسطينية لا بد له من أطراف ملتزمة بالتجرد والحياد ـ إن وجدت حقيقة ـ والوقوف على مسافة واحدة من طرفي النزاع فيها ، ولا تصلح الدول الغربية لذلك أبدا لأنها لا يمكن أن تتخلى عن انحيازها لكيان عنصري في زمن كان من المفروض ألا يبقى فيه أثر لأي شكل من أشكال الكيانات العنصرية المقيتة .
وما لم يتوفر الوسطاء المحايدون والمتجردون للنظر في القضية الفلسطينية من أجل حل دائم وعادل لها ، فسيظل الصراع قائما بين طرفي النزاع ، ولن تتوقف الحرب بينهما إلا لتندلع من جديد لتكون أشد عنفا مع تطور الأسلحة التي لا يزيدها التطور إلا شدة فتك . وإذا ما استمر الأمر كذلك، فإن النتيجة الحتمية هي اندلاع حرب عالمية ثالثة لا محالة تأتي على الأخضر واليابس، ويكون سببها هو الانحياز الغربي اللامحدود لكيان عنصري كان من المفروض ألا يوجد أصلا لأنه محتل غاصب لأرض غيره ، ولأنه يمثل العنصرية المقيتة في أبشع صورها لأنه يعتبر عرقه فوق كل الأعراق، وأنه خلق ليسودها كلها ، وكفى بهذا الاعتقاد الفاسد خطرا مهددا للأمن والسلم العالميين .
وسوم: العدد 931