أنور رسلان ضابط مخابرات الأسد والتأسيس لمفهوم جديد للعدالة الدولية

على مدار الساعات الماضية دار سجال كثير حصل ويحصل بين السوريين، حول الحكم على ضابط مخابرات الأسد ورئيس أحد أعتى سجونه ومسالخه البشرية أنور رسلان. بين راض عن حكم العدالة الدولية ومسخف لهذا الحكم، أو حتى من عبّر عن رأيه بأنه غير مهتم اصلا لما يجري.

أيا كان ما يحصل، علينا الاعتراف بأن حكم القضاء الألماني عليه بأقصى عقوبة لديه وهي السجن المؤبد، بني على وقائع وإثباتات قدمها القضاة ـ في واحد من أهم الأجهزة القضائية في العالم، في دولة قانون يشار لتجربتها بالبنان، وفي واحدة من أهم قضايا القانون الدولي التاريخية على الإطلاق، لدعم حكمهم.

ولنكن واضحين مع انفسنا، فبعض السوريين تعاطف من منطلق طائفي، باعتبار أنه سني، كما امتعض بعض المسيحيين من أن متهما آخر ينتظر المحاكمة أمام القضاء الألماني هو الطبيب علاء. م، وربما ستكون عقوبته مشددة لاحقا، وفي كلتا الحالتين ليس هناك علوي، وبكل تأكيد هذه الرؤى الضيقة بعد سنوات من الصراع لن تضيف لقضية السوريين، التي يتم طمسها شيئا فشيئا إلا مآسي جديدة.

البعض الآخر استخف بقيمة هذه الشخصية، وقفز إلى أن رأس الإجرام، لا يزال طليقا، وإن رسلان ما هو إلا جزء صغير لن تردع محاكمته آلة قتل نظام الأسد؟

البعض، ومن منطلق تجارب شخصية في الحياة الألمانية، اعتبره حكما تافها فكثير من السوريين يعانون في ألمانيا، وليس هناك من يدافع عن الظلم الذي يلاقونه. قد يكون الجميع محقا في التعبير عن مشاعره وله مبرراته، لكن لديّ سؤال جوهري في قضية رسلان: ماذا لو أن رسالة اعتذار أنور رسلان ضابط مخابرات الأسد المطولة، التي قرأها بلسان محاميه بالألمانية، عن دوره في نظام مجرم، كانت للشعب السوري، بعد انشقاقه في عام 2012 ولم تكن في محكمة ألمانية لتخفيف الحكم، عليه؟ لماذا أصر على الصمت حتى لفظ كلمة، نعم، عندما سألته القاضية هل توافق على مضمون الاعتذار؟ ماذا كان سيحدث لو أن ضابطا في هذا المستوى الرفيع، ومنذ انشقاقه قدم نفسه للعدالة الدولية كشاهد في إحدى أبرز قضايا الجرائم ضد الإنسانية، وقال إنه سيكون تحت تصرف أي دولة من دول القانون والقضاء العادل، وقدّم المعلومات والتفاصيل التي لديه، والتي ذكر بعضها في رسالة اعتذاره الأخيرة، منذ زمن مبكر من عمر الثورة، هل كان ليكون متهما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟ أم بطلا من أبطال ثورة الحرية والكرامة؟ ألم يكن ليحرج أصدقاء النظام من الدول الداعمة له، قبيل انغماسهم أكثر وأكثر في مستنقع الدم، وفي حساب الزمن السوري كان أي تفصيل سيكون مهما في تغيير مجريات الأحداث، فما بالنا بضابط في هذا المستوى بادر ليقدم نفسه شاهدا للعدالة الدولية منذ زمن بعيد، لا معتذرا كمجرم بعد سنوات في رسالة اعتذار قدمت إدانة لنظام بأكمله، وسيبنى عليها. طبعا كل السوريين يعرفون ذلك وخبروه، لكن العالم البليد لا يزال إلى اليوم يحتاج لإثباتات وقرائن كي يوقظ إنساتيته لوقف جرائم هذا النظام، بل نجدهم اليوم يطبعون معه بدعم ليس روسيا فقط، بل أمريكيا يعطل فيه رئيسه بايدن قانون قيصر بطريقة مثيرة للعجب.

ثمة باب جديد فتح بحاجة لشهود ومدعين وطلاب عدالة وفرسان عدالة لا يملون ولا يكلون لإعلاء قيمة القانون على سطوة من يمتهنون القتل

قد نعتبر أنور رسلان كبش فداء لجرائم واحد من أعتى أنظمة القتل والإرهاب الدوليين، هذا في حال توقف من أسميهم دائما بـ»فرسان العدالة» السوريين عن ملاحقة مجرمي الحرب، لكن إن استمرت مهمتهم فلن يكون كل مجرم من أذرع النظام الضاربة يحاسب، إلا درجة في سلم طويل سيوصل في النهاية، ومهما طال الزمن إلى رأس هذا النظام، الذي يلقى دعما منقطع النظير من قوتين عالميتين تحددان مصير الامم كروسيا وأمريكا شئنا أم أبينا.

ستسجل هذه المحاكمة في كتب التاريخ القضائي عن محاكمة نظام على رأس سلطته وملاحقة جلاديه، في سعي دؤوب للبشرية نحو بناء قضاء عادل يحقق العدالة للمقهورين والمظلومين، هي خطوة أولى متواضعة نعم.. لكنها لبنة في صرح عالمي ضخم بدأ بناؤه في ألمانيا من البوابة السورية، نعم.. أصبح لدينا حكم قضائي عالمي يقاس عليه لمحاكم ستتوالى طال الزمن أم قصر، والزمن في عمر البشرية لا يقاس بالسنوات حتما، بل بتراكم ما يميز البشر عن مملكة الحيوان تلك التي يسعى فيها هذا الكائن البشري الانفصال والتمايز، ولا يزال دربه طويلا.

قد نختلف ونستهزء بالحكم، أو نشيد به، لكن ثمة باب جديد فتح بحاجة لشهود ومدعين وطلاب عدالة وفرسان عدالة لا يملون ولا يكلون في سعيهم لإعلاء قيمة القانون على سطوة وسفالة من يمتهون القتل ويستبيحون أعراض الناس عندما يجدون لذلك طريقا… سأل جلاد شيخا يقبع في سجنه أن يغفر له وقال: يا مولاي لا أستطيع رد الظلم عنك، فأنا ضعيف ولا أجرؤ على مخالفة أوامر سيدي بتعذيبك؟ رد عليه الشيخ: والله لولاك ما ظلموا؟ لولاك ما ظلموا؟ الحكم على أنور رسلان حدث يبنى عليه وليس بالأمر السهل، حدث تاريخي في حياة السوريين إن استطعنا الاستفادة منه والبناء عليه ليس في القضاء الألماني، بل في كل مكان حل فيه «فرسان العدالة» السوريين، وقد أصبحت الأرض كلها مسكنهم، سيكون لذلك حتما شأن كبير على طريق عدالتهم الطويل.

وسوم: العدد 964