إخفاق الموساد في تجنيد محمد حسنين هيكل
لا يتردد الموساد ، استخبارات إسرائيل الخارجية ، في تجنيد من يستطيع تجنيده في العالم العربي صغيرا كان أو كبيرا ، فالصغير مفيد والكبير مفيد ، والإفادة موقوفة على قدرة الموساد في كسبها . وهو بارع في هذا ، وله قدرة على الإفادة من معلومات تظهر عادية في عين كثيرين . منذ عامين ، قبضت الأجهزة الأمنية في غزة على شخص كلفه الموساد بجلب كميات من تراب الأنفاق التي تحفرها المقاومة ، واتضح أنه يستدل منها على نوعية التربة من حيث الهشاشة والصلابة ، وعلى عمق الحفر ، وهذان الأمران مفيدان عسكريا . وفي مقال في صحيفة " هآرتس " كشف الصحفي أمير أورن معتمدا على ما رفعت السرية عنه مؤخرا في الأرشيف الوطني الإسرائيلي أن الموساد سعى لتجنيد محمد حسنين هيكل رئيس تحرير " الأهرام " الأسبق ، ومستشار عبد الناصر وصديقه ، وأنه رمز له في ملفات الموساد بالاسم العبري " عوزي " ، ولو تجاهلنا أن الحرف المشدد في العربية حرفان لاكتشفنا أن كلا من " محمد " ، و " عوزي " يتألفان من أربعة أحرف . وفي تفاصيل مسعى الموساد لتجنيد هيكل أو التقرب منه ينقل أورن عن الأرشيف أن محاولة التجنيد وقعت حين كان هيكل في نيويورك مع عبد الناصر الذي قدم لحضور اجتماعات الجمعية العامة في ستينات القرن الماضي ، وأن المحاولة غلفت بغلاف نشاط صحفي تولاه صحفي رمز له ب " سانت جون " إلا أن هيكل غادر نيويورك قبل أن يلتقيه ذلك الصحفي ما أشعر رجال الموساد بخيبة مريرة ، وفي تقديرنا أن مسعى الموساد لم يكن خافيا على المخابرات المصرية ، وأنها ربما حثت هيكل على المغادرة التي لا نعلم ملابساتها يقينا . ويعترف الكاتب الإسرائيلي استدلالا من الأرشيف أن هيكل كان " وطنيا شرسا ، ولم يكن من النوع الذي يغريه المال ، ولا شيء في حياته يوحي بإمكانية ابتزازه للتعاون مع الموساد . " ، إنه شخص يتحقق فيه المثل الشعبي المصري : " امشِ عِدِلْ يحتار عدوك فيك ! " . واستهدف الموساد من التقرب من هيكل إن أخفق في تجنيده أن يقنعه بالتأثير على سياسة القاهرة نحو إسرائيل لتخفف من عدائها لها ، وعلى موقف الرأي العام المصري المعادي لها ، ويعترف الكاتب بأن هذا الهدف لم يتحقق يومئذ ، وظلت مقالات هيكل معادية لإسرائيل ، ورأينا أنه لن يتحقق ، ومازال الشعب المصري كارها لإسرائيل ، معاديا لها ، ويلتقط أي سانحة للجهر بهذا الكره وهذا العداء . ويعرج أورن على مقابلة هيكل في 1988 مع مجلة " الدراسات الفلسطينية " التي ذكر فيها أنه اجتمع مع بن جوريون في القاهرة في 1946 ، وفي القدس في مطلع 1948 ، وأنه زار فلسطين زمن الانتداب ، ويصف ما ذكره هيكل بأنه مذهل ، وفي رأينا أنه لا إذهال فيه ، فرغم وضوح نوايا المشروع الصهيوني ،وحدوث صدامات بين الفلسطينيين والعصابات اليهودية ، كانت تجري لقاءات بين شخصيات فلسطينية وعربية ويهودية ، والتقى الصحفي المصري إحسان عبد القدوس مع بن جوريون في فلسطين ، واطلع على المشروعات اليهودية فيها مدنية وعسكرية ، وكتب في " روز اليوسف " عند عودته إلى القاهرة أن فلسطين ضاعت ، وأن اليهود أعدوا دولة لا تنتظر سوى رفع الغطاء عنها . كان هيكل معاديا لإسرائيل ، ومؤمنا بحتمية زوالها ، ونصح بالابتعاد عنها ، وبالتقرب من إيران ، وقال في تعبير رمزي إنه يمكن أن يغمض عينيه ، ولا يجد إسرائيل حين يفتحهما ، وأن هذا لا يحدث مع إيران ، وهو الذي صاغ عبارة " لقد أعطى من لا يملك لمن لا يستحق " مشخصا جوهر وعد بلفور وخطيئته ، وهي العبارة التي ما فتئت تتردد على ألسنة الكثيرين في العالم العربي وفي كتاباتهم ، وكان لا يؤمن بوجود شعب يهودي ، هذا الوجود المزعوم المختلق الذي أسست عليه الحركة الصهيونية الغربية المنشأ مخططها مدعية أن فلسطين أرض بلا شعب ، واليهود شعب بلا أرض فلتكن لهم ! مقدمة باطلة كاذبة لاستنتاج باطل فاسد ما زالت الشعوب العربية ، وأولها الشعب الفلسطيني ، ضحية له . استعصاء هيكل على الموساد قدوة لكل عربي يحب وطنه وأمته . خيانة الوطن والأمة تصنف خيانة عظمى felony في قوانين كل الدول لشمول خطورتها وقبحها ودناءة كل من يقع في فاحشة إثمها ، وكثيرا ما قلبت معلومة من خائن لأمته انتصارها هزيمة ، وهزيمة عدوها الذي حصل على المعلومة انتصارا .
***
غطى هيكل حرب فلسطين في 1948 بين العرب وإسرائيل مراسلا حربيا ، وعقب معركة بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية ، حط ضابط مصري قدمه على جثة جندي إسرائيلي ، وقال لهيكل : " صور ! " ، فرفض ، وشرح للضابط ما ستجلبه الصورة في حال نشرها من أذى لسمعة الجيش المصري ومصر .
***
بعد تحطيم دبابات اللواء عساف ياجوري وأسره في حرب أكتوبر 1973 ، نظموا له جولة في القاهرة ، وكان من بينها زيارة مبنى جريدة " الأهرام " ، وفجأة بكى ، فسألوه عن سبب بكائه ، فأجابهم أن كل ما كان يسمعه عن مصر أنها متخلفة وصحراء ، وأنه لم يتصور وجود مثل هذا المبني الفخم فيها وبأحدث أجهزة الطباعة ! والمشهور أن هيكل نهض ب " الأهرام " نهضة شاملة في كل شيء بعد توليه رئاسة تحريرها وإدارتها ، وأن مبناها الجديد في عهده ما كان يماثله فخامة وأناقة سوى مبنى جريدة " آساهي " اليابانية .
وسوم: العدد 969