كتاب يوثق للدور السوفييتي في نشأة دولة الاحتلال بفلسطين

منى عبدالفتاح رمضان

sgsdfhfh973.jpg

الكتاب: "موسكو تل أبيب ـ وثائق وأسرار"

الكاتب: د. سامي عمارة

الناشر: دار نهضة مصر - الطبعة الأولى، القاهرة 2021

صدر، مؤخرا، للكاتب المصري د. سامي عمارة، الخبير في الشؤون الروسية، عن دار الشروق،  كتاب "موسكو تل أبيب ـ وثائق وأسرار"، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى كونه أول إصدار عربي يسجل بعدد غير مسبوق من الوثائق، فترتين مهمتين من تاريخ منطقة الشرق الأوسط الحديث، أولهما تتعلق بقيام إسرائيل، وثانيهما تتصل بالعلاقات العربية السوفيتية.

يرى عمارة، وعلى نقيض الشائع بشأن وعد بلفور، أن موسكو كانت في صدارة المسؤولين عن وزر قيام إسرائيل، مستشهداً بالوثائق، والأدلة التي تبرهن على تفاصيل الدور الرسمي الذي لعبته موسكو في صناعة وطن قومي لليهود في فلسطين، خصماً من رصيد، وحقوق العرب، والفلسطينيين.

لذا، ينبغي على العرب جميعا الاطلاع على هذا الدور، وتفاصيله، في مقدمتهم فلسطين، التي أهداها المؤلف كتابه، لا من أجل إصدار الأحكام فقط، بل من أجل تنشيط الذاكرة، ولندرك حقيقة الأمور من حولنا، واستعادة صفحات ماضٍ تضمن بين طياته المخرج، والسبيل صوب مستقبل، لابد أن يشهد تصحيح ما شابه من أخطاء، ومآسٍ، وكوارث، منها بل وفي مقدمتها، ما شهدته مسيرة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، من فرص ضائعة.

جاء الكتاب في 422 صفحة، من القطع المتوسط، قُسِمت ما بين إحدَ عشر فصلاً، خلاف عشر صفحات أخرى تضمنت المراجع، والعديد من الصور والوثائق .

انطلق المؤلف من فرضيات، مؤداها: "كان اليهود في صدارة القوى التي قامت بانقلابها ضد القيصر وسياساته في شباط (فبراير) ثم في تشرين أول (أكتوبر) 1917، فهل ارتبط ذلك ضمناً بتصفية حسابات قديمة يعود تاريخها إلى نهاية القرن التاسع عشر؟ ولماذا تعجل اليهود لاحقاً الإنقلاب ضد مبادئ الإشتراكية؟ وما هي الأسباب الحقيقية التي جعلتهم هدفاً لملاحقات ستالين؟ ولماذا عادوا إليه ينشدون الدعم لإقامة دولة إسرائيل؟ وما هي الظروف التي دفعت ستالين إلى تغيير موقفه، والوقوف إلى جانب فكرة إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين؟"..

تناقضات واستفهامات عديدة، أزاح عنها عمارة الستار، في الفصل الأول من الكتاب، بالعودة إلى أصول التاريخ؛ بحثاً عن السير الذاتية لبعض أبطاله، وعرض بعض الوثائق، والكتب، التي كشفت عن مقدمات هذه الكارثة، وسبر أغوار ما خفي من خطوات قام بها الزعيم السوفييتي الأسبق يوسف ستالين من أجل إقامة الكيان الإسرائيلي، ما يعد من حيث الجوهر؛ أكثر تأثيراً، وأبعد مدى من وعد بلفور، فإن كان بلفور منحهم الوعد، فأن ستالين وضعه حيز التنفيذ.

لكن، كيف نسجت الصهيونية شباكها حول المسؤولين السوفييت؟ إجابة هذا السؤال، كانت محور الفصل الثاني، الذي حمل عنوان " اتصالات ما قبل قرار تقسيم فلسطين"، وفيه مضى عمارة مع الوثائق التي ينقلها من مجموعات وثائق العلاقات السوفييتية الإسرائيلية، خلال الفترة من 1941 ـ 1953، مُجيباً  عن سؤالنا، ومُدللاً على مدى إدراك موسكو لتوجهات الصهيونية، وإحاطتها علماً بردود الأفعال المحتملة من الجانب العربي، وكيف أن موقف موسكو، بدأ يجنح تدريجياً صوب تبني ما يسمى بـ "ضرورة التخفيف من وطأة معاناة الشعب اليهودي"، وبما يمكن أن يكون مقدمة لاستصدار قرار التقسيم، إستعرض بعدها عمارة فكرة تقسيم فلسطين، كيف؟ ومتى بدأت؟ وتطوراتها، وأبرز بنودها، وملامحها.

   

طرح المؤلف في الفصل الثالث العديد من التقارير، كان أبرزها، تقرير قسم الشرق الأوسط في الخارجية السوفييتية، عن موضوع فلسطين، بعد صدور قرار الأمم المتحدة، بشان تقسيم البلاد، الذي كشف عن موقف موسكو من الاعتراف بإسرائيل، ومدى ما اتسم به هذا الموقف من التواطؤ أحياناً، والدعم المباشر أحياناً أخرى، إلى حد أن موسكو كانت الدولة الأولى التي فتحت مسلسل الاعتراف بإسرائيل، قبل الولايات المتحدة الأمريكية. 

"هذا، وكان الجانبان السوفييتي والإسرائيلي قد أنجزا مرحلة هامة من مراحل تعاونهما الذي امتد لسنوات لاحقة، أعقب عقوداً من التعاون شهد ذروته في الاعتراف الدبلوماسي وتبادل البعثات الدبلوماسية وتعجل موسكو افتتاح (سفارتها ) في تل أبيب في أغسطس 1948، وهو ماردت عليه إسرائيل بإيفاد جولدا مائير (على الطريقة العبرية)، في سبتمبر 1948، كأول سفيرة لإسرائيل في الإتحاد السوفييتي". (صفحة 128) 

تناول الفصل الرابع بعضاً من السيرة الذاتية لجولدا مائير، ومدى ما لاقته من دعم سوفييتي منقطع النظير، وأسباب هذا الدعم، وما كان لها من دور هام، ونشاط محموم، من أجل تهجير أكبر قدر ممكن من اليهود السوفييت إلى إسرائيل، ما جعل من مائير قدوة لكل من خلفها في سفارة إسرائيل بموسكو، أو بين صفوف القيادات الإسرئيلية .

عن تأرجح العلاقات السوفييتية ـ الإسرائيلية ما بين تراجع، وتأييد بلغ حد التعاون، والدعم، جاء الفصل الخامس؛ وفيه كشف الكاتب عن حقيقة ما كانت تراهن عليه موسكو، حول إقامة دولة اشتراكية في الشرق الأوسط، ما يمكن أن يكون نقطة انطلاق لثورة الطبقة العاملة، والانتصار على الرأسمالية، وتغليب الطابع القومي للدولة، وما طُرح من تطورات حول الأهمية الاقتصادية للمنطقة، وموقعها الإستراتيجي، إلى جانب المدلولات الخاصة بمستقبل القدس.

  

ألقى المؤلف في الفصل السادس حزمة من الأضواء، على ما حققته جولدا مائير في موسكو من إنجازات؛ في سبيل تنفيذ مخطط الدولة الصهيونية، بالرغم من أن مهمتها لم تستغرق أشهر معدودة، ما جعلها محور نقاش، ودراسة من جانب الهيئات المعنية في الدولة السوفييتية، ثم عرض عمارة بعض الوثائق التي أوضحت أسباب تراجع العلاقات الإسرائيلية مع موسكو، بعد رحيل  مائير منها، خاصة بعد حادث الإعتداء على مقر البعثة الدبلوماسية السوفييتية في تل أبيب، إلى حد مطالبة بعض المسئولين السوفييت بقطع العلاقات مع اسرائيل، وقد كان.

حمل الفصل السابع عنوان، "القِرم وطناً قومياً لليهود بدلاً من فلسطين!"، تناول فيه الكاتب تاريخ "جزيرة القرم"، منذ أن كانت ساحة للمواجهة، بين أعتى إمبراطوريات القرون الماضية، والتحاقها بالإمبراطورية الروسية القيصرية، عام 1854، وحتي عودتها إلى صدارة أحداث القرن الحالي، مروراً ببداية تطلع الأمريكين، ومعهم الصهاينه إليها، إعتباراً من مطلع القرن العشرين، وما فعلوه من أجل تحويل القرم إلى وطن قومي بدلاً من فلسطين، مادفع ستالين إلى التحول للبحث عن سبيل أخر تخلصاً من هذه الورطة، الذي وجده ستالين في إعلان مؤتمر بازل، وفكرة تيودور هيرتزل، حول توطين اليهود في فلسطين، وما تلا ذلك من استصدار وعد بلفور البريطاني، " ما كاد الأمريكيون يبدءون في مطالبة ستالين بسداد قيمة الصكوك المالية حتى صارحهم باستعداده لتنفيذ التزاماته تجاه إنشاء وطن قومي لليهود.. لكن في فلسطين، وليس في شبه جزيرة القرم" ( صفحة 252).

بعد توالي الأحداث، و حتى منتصف خمسينات القرن الماضي، كشفت وثائق عمارة في الفصل الثامن، عن حقيقة، وأسباب تحول موسكو صوب البلدان العربية، وفي مقدمتها مصر، وجنوح السياسة السوفييتية، نحو تجميد علاقات موسكو مع إسرائيل، وعدم الإنسياق إلى سابق تكثيف تعاونها معها، وهو ما تجسد ضمناً في عقد ما سمي بـ "صفقة الأسلحة التشيكية" (صيف 1955)، والدور السوفييتي الرسمي حيال "العدوان الثلاثي" على مصر.

يمضي عمارة مع الوثائق ليتوقف، عند استمرار إسرائيل في محاولاتها للحد من تصاعد وتيرة التقارب المصري السوفييتي، وتكرار محاولاتها في استعادة العلاقات الطيبة مع موسكو، والسبب فيما إعترى الموقف السوفييتي من انفراجه نسبية في علاقاتها مع اسرائيل، ازدادت تدريجياً، إلى حد محاولات موسكو تلمُس سبل الإتصال غير المباشر مع إسرائيل، وهو ما اتضح جلياً من خلال "إتصالات بريماكوف السرية"، وكأنما كانت موسكو تشعر بندمها تجاه "قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل".

"يفغيني بريماكوف" وزير الخارجية الروسي، ثم رئيس حكومتها في 1999، ودورة في استعادة العلاقات السوفيتية الإسرائيلية، كان موضوع الفصل التاسع، تحدث فية الكاتب عن اتصالات بريماكوف السرية مع إسرائيل، وظهور ما سمى بـ "الملف السري للغاية" الذي تقرر بموجبه فتح باب الاتصالات السرية مع القيادات الإسرائيلية، التي استمرت على فترات متقطعة بدأت من 1971، لم تتوقف حتى عام 1991، الذي شهد الإعلان رسمياً عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، في أكتوبر من ذات العام، تطرق بعدها عمارة إلى رأي بريماكوف في نتنياهو، وحقيقة إمتلاك أسرائيل للقنبلة النووية، ليختتم هذا الفصل بالمزيد من الحديث عن شخصية نتنياهو منذ صعوده إلى قمة السلطة في إسرائيل، و"استراتيجيته ذات الأركان الخمس".

تحدث المؤلف في الفصل العاشر، عن الدور الصهيوني في كل ثورات، وحركات روسيا السياسية، والثقافية، ودور الأنتليجنسيا ـ النخب اليهودية ـ في معظم مراحل تطور الإمبراطوريتين الروسية، والسوفييتية، وكيف عادت تلك الإنتليجنسيا لتلعب دوراً مماثلاً في الدولة الروسية، مع نهاية القرن العشرين، لتطل برأسها من وراء بعض كواليس الكرملين، تحيُناً لفرصة تكرار ما هو أقرب إلى ما يسمى بـ "حصان طروادة" في فريق الرئيس بلاديمير بوتين.

خصص المؤلف الفصل الحادي عشر والأخير من كتابة، للحديث عن مدى سيطرة اليهود على قمة الهرم السياسي السوفييتي، وكذلك سيطرتهم على مفاتيح الإعلام، والصحافة، والفن في روسيا المعاصرة، والدور الذي قدمه اليهود السوفييت في دعم إسرائيل، وكيف أن المهاجرين السوفييت، هم أكثر العناصر تطرفًا، وعدوانية في المجتمع الإسرائيلي، وأن مهاجري الفضاء السوفييتي السابق، يظلون حتى اليوم، من أهم دعائم التقدم التكنولوجي، والعلمي الإسرائيلي. 

وأضاف عمارة أنه توجد هناك الكثير من الاعترافات التي تقول أن ما قدمته روسيا من كوادر بشرية علمية لإسرائيل من مهاجريها، ويقترب عددهم من المليون نسمة في تسعينيات القرن الماضي وحدها، كان في صدارة أسباب الطفرة التكنولوجية التي حققتها إسرائيل، وتجني ثمارها اليوم على الأصعدة العلمية والتكنولوجية والعسكرية كافة خلال السنوات الأخيرة.

استشهد الكاتب بالعديد من الصور، والوثائق، إضافة إلى تصريحات بعض الشخصيات الروسية، والصهيونية البارزة، ليُبرهن على تفاصيل الدور الروسي في قيام إسرائيل، ما دل على انتهاج المؤلف للمنهج التاريخي الاستشهادي، لكنه على خلاف ما جاء بكتابه الأول (القاهرة ـ موسكو)، الذي اعتمد فيه في الأغلب الأعم على الوثائق، فإنه في هذا الكتاب، إعتمد أكثر على تصريحات مسئولين معلنين عدائهم للإتحاد السوفييتي، دون أن يناقش المؤلف ما أدلوا به من تصريحات.

اختتم عمارة كتابه، بأنه رغم إصراره على الإشارة إلى أن موسكو أخطأت في حق العرب "مرتين"، بسبب صناعة دولة إسرائيل في المرة الأولى، وبسماحها في المرة الثانية بتدفق مواطنيها من اليهود، وغير اليهود إلى إسرائيل، فلابد من الإعتراف؛ بأن العرب أخطأوا في حق أنفسهم عشرات المرات؛ بإدمانهم عبثية الكثير من المعالجات السياسية، التي أضاعت فرص استعادة الحق الواحدة تلو اللآخرى .

أخيراً، فإننا ننصح بقراءة هذا الكتاب، لكل دارس، وكل مهتم بالعلاقات الروسية ـ العربية الراهنة، فضلاً عن نظيرتها، الروسية ـ الإسرائيلية. 

وسوم: العدد 973