شيطنونا وأطعناهم

قال المتنبي أشعر الشعراء العرب في هجاء كافور الإخشيدي:

ساداتُ كلّ أُنَاسٍ مِنْ نُفُوسِهِمِ                         وَسادَةُ المُسلِمينَ الأعْبُدُ القَزَمُ

أغَايَةُ الدّينِ أنْ تُحْفُوا شَوَارِبَكم                     يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ

وشاطر أبو العلاء المعري، المتنبي فيما ذهب إليه، حبن خاطب أهل مصر قائلا: اقتصرتم من الدّين على ذلك، وعطّلتم سائر أحكامه! ورضيتم بولاية كافور عليكم مع خسّته، حتى ضحكت الأمم منكم واستهزأوا بكم وبقلة عقلكم."

وبعيدا عن هجاء المتنبي لكافور الإخشيديّ، إلا أنّه لا يمكن الابتعاد عن حقيقة "الكوافير" المعاصرين، الذين جعلوا من الأمّة "أضحوكة بين الأمم". والإمبرياليّة العالميّة تعلم ذلك جيّدا، وتعتمد على "كنوزها الإستراتيجيّة في المنطقة" لترسيخها،

وقد ارتضت الشّعوب ذلك بسبب الجهل السّائد والمستمرّ من خلال المناهج الدّراسيّة التي لا تواكب العلوم الحديثة، والتي ترسّخ الفهم السّاذج والجاهل للآية الكريمة المجتزأة:" كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس..." والمقصود هنا حسب المفسرين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المهاجرين، لكنّ الغالبيّة من جهلاء العصر يردّدونها مقتنعين أنّها تشمل المسلمين جميعهم في مختلف العصور، وبهذا فهم يرون أنّهم خير البشر، وأنّهم مهتدون مالكون للحقيقة دون غيرهم من البشر، وأنّ الله ناصرهم وهم قاعدون! ولم ينتبهوا إلى المأساة الكارثيّة التي يعيشونها.

ولهذا فقد انقادوا طائعين مخلصين لأكاذيب الغرب الذي يستعبدهم وينهب ثرواتهم، فأصبحت الخيانة عقيدة، وليست "وجهة نظر" كما وصفها الشّهيد صلاح خلف في سبعينات القرن الفارط. فقد فرّطوا بفلسطين وشعبها، بل ساهم عدد منهم بإقامة اسرائيل وحمايتها، وحاربوا ولا يزالون من يعاديها، وبعضهم يتستّر بالدّين والدّين منه براء، ولم يتّعظوا من تجاربهم ولا من تجارب غيرهم، وقد استطاعت الإمبرياليّة العالميّة تجنيد بعض أحزاب وتنظيمات الإسلام السّياسي لمحاربة السّوفييت، وأطلقت عليهم "السّور الواقي من خطر الشّيوعيّة"! وعندما انهار الاتّحاد السّوفييتي ومجموعة الدّول الإشتراكية في بداية تسعينات القرن الفارط، بحثت الإمبرياليّة عن عدوّ محتمل، فكرّست طاحونة إعلامها لشيطنة الإسلام والمسلمين، وعبّأت الشّعوب ضدّهم، ومع ذلك ظهرت تنظيمات متأسلمة مثل القاعدة، داعش، جبهة النّصرة وغيرها، مارست الإرهاب العالميّ، لتثبت قولا وفعلا دعاية وأكاذيب الإمبرياليّة التي وجّهتهم لمحاربة أوطانهم وشعوبهم، فدمّروا الجزائر، الصّومال العراق، سوريا، ليبيا وغيرها.

وإذا كذّب الإمبرياليّون وضلّلوا الشّعوب حفاظا على مصالحهم، ولمواصلة نهب خيرات الشّعوب، فإنّ حكّاما عربا ومسلمين كذّبوا على شعوبهم لتسهيل المصالح الإمبرياليّة وتحقيقها على حساب أوطانهم وشعوبهم، فقتلوا واعتقلوا وعذّبوا وشرّدوا وخوّنوا وكفّروا كلّ من عارض ذلك وسخّروا طاحونة إعلام هائلة لتضليل الشّعوب.

وبما أنّ القضيّة الفلسطينيّة قضيّة العرب الأولى، فهل اعتبرها الحكّام العرب كذلك؟ فمّما قاله الرّئيس الأمريكيّ كلينتون عندما انتهت ولايته، أنّه التقى كلّ الحكّام العرب والمسلمين، ولم يسمع من أيّ منهم طلبا بإقامة دولة فلسطينيّة!

وعندما ذهب العرب إلى مؤتمر مدريد في اكتوبر 1991، تنازلوا بسهولة عن وفد عربيّ واحد، وذهبوا منفردين، وألحق الوفد الفلسطينيّ بالوفد الأردنيّ.

ووصلت الخطيئة الكبرى ذروتها عام 1993 بتوقيع منظّمة التّحرير الفلسطينيّة اتّفاقات أوسلو، معتمدة على حسن نوايا "الصّديقة أمريكا" بإقامة دولة فلسطينية عام 1999. وفي الوقت الذي أعلنت فيه مبادرة السّلام العربيّة عام 2002، لم تكتف الأنظمة العربيّة بعدم تطبيقها، بل فاوضت اسرائيل من وراء الكواليس، حتّى وصلت ذروتها بتطبيع العلاقات المجّانيّة مع اسرائيل المحتلّة للأراضي العربيّة، بشكل علنيّ كما فعلت الإمارات، البحرين والمغرب، بناء على طلب"الصّديقة أمريكا"! في حين يعمل آخرون على التّطبيع العلني مثل السوّدان، قطر وعُمان، ويعمل آخرون على التّطبيع المجّاني باستحياء مثل السّعوديّة التي تتعاون مع اسرائيل أمنيّا وعسكريّا. ومن اللافت أنّ غالبيّة الأنظمة العربيّة اعتبرت تطبيع العلاقات المجّاني مع اسرائيل "قرارا سياديّا"! وهم يعملون على تطبيق المشروع الأمريكيّ "الشّرق الأوسط الجديد"، الذي يرمي إلى إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعي؛ لتسود اسرائيل المنطقة برمّتها. ومن هنا جاءت الحروب على محور المقاومة وشيطنتها وحصارها ووصفها بالإرهاب، لتطبيق "صفقة القرن" التي أملاها نتنياهو على ترامب. والحديث يطول.

وسوم: العدد 978