قراءة في فكر الإمام البنا
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب رب العالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
هذه حلقة من الكتابات التربوية للإمام الشهيد رحمه الله، حققها وعلّق عليها الأستاذ عصام تليمة، وجمعها في كتاب "نظرات في التربية والسلوك"، نعرضها، كغيرها من الحلقات، بشيء من التصرّف اليسير.
قبسات من نور فاتحة الكتاب
تناسب وإنعام
لا شكّ أن من تدبّر الفاتحة الكريمة، وكلُّ مؤمن مطالَبٌ بتدبر آيات القرآن المجيد، وبتلاوة هذه السورة العظيمة في صلاته وخارجها، رأى فيها من غزارة المعاني وجمالها، وروعة التناسب وجلاله، ما يأخذ بلُبّه، ويضيء جوانب قلبه، فهو يبتدئ ذاكراً لله، تالياً آياته، ومُتيمِّناً باسمه الرحمن الرحيم، الذي تظهر آثار رحمته متجدّدةً في كل آن، مستشعراً أن أساس الصلة بينه وبين خالقه العظيم، هو هذه الرحمة التي وسعت كل شيء.
فإذا استشعر هذا المعنى، ووقر في نفسه، انطلق لسانه بحمد هذا الرب الرحمن الرحيم، وذَكَرَه بعظيم نعمه، وكريم فضله، وكثرة آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً. فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له، ثم تذكّر من جديد، أن هذه النعم الجزيلة، والتربية الجليلة، ليست عن رغبة في منفعة، ولا رهبة من ضرر، بل هي محضُ تفضّلٍ ورحمة، والله غني عن العالمين، فنطق لسانه مرة أخرى بـ "الرحمن الرحيم".
ولكن من كمال هذا الرب العظيم الكريم، أن يقرن الرحمة بالعدل، ويذكّر بالحساب بعد الفضل، فهو، مع رحمته الواسعة سيحاسب عباده يوم الجزاء (يومَ لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئاً. والأمر يومئذٍ لله)، والأمر دائماً لله، ولكنّ هذه الحقيقة قد يغفل عنها الناس في حياتهم، وربما أنكرها بعضهم، لكنهم يوم الحساب يرونها ماثلةً أمام أعينهم، بل يعيشونها بكل مشاعرهم.
تربية الله تعالى لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالحساب العادل، والجزاءِ الوافر، يوم يضع سبحانه، الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تُظلَم نفس شيئاً. وهكذا يدرك العبد واجبه في تحرّي الخير والسداد، والبحث عن وسائل النجاة والنجاح، وهو في أشد الحاجة إلى من يهديه سواء السبيل، فليلجأْ إليه بالحب والرهبة والطاعة، وليقلْ مناجياً ربه: (إيّاكَ نعبد)، وليشعرْ بعجزه أمامه، وفقره إليه، وحاجته إلى عونه في كل شيء من أمور دينه ودنياه، فليقلْ: (وإيّاكَ نستعين).
ثم ليسألْهُ الهدايةَ من فضله إلى الصراط المستقيم، وهو الصراط الذي سلكه عبادُ الله المقرّبون، الذين عرفوا الحق واتبعوه، من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين: (اهدنا الصراط المستقيم، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم).
وهو غير السبيل الذي هلك فيه المغضوبُ عليهم، الذين عرفوا الحق فحادوا عنه وتنكّبوه، أو الذي سلكه الضالون التائهون الذين لم يعرفوا طريق الهداية، فهاموا على وجوههم في سبل الغواية، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فإذا قرأ المؤمن هذه السورة، ودعا الله بالاستقامة على الطريقة التي يحبّها ربه، والنجاةِ من طرق الغضب والضلال، قال: آمين، اللهم استجب دعائي.
فهل رأيتَ تناسباً أدقّ، أو ارتباطاً أوثق مما تراه، بين معاني هذه الآيات الكريمات؟!.
لعلّك، أخي المؤمن، تُعجَبُ مرةً بقصيدة، فتراك تلتذ لقراءتها وسماعها مرة واثنتين وثلاثاً. ثم ماذا؟ لا شك أن جمالها الذي أخذ بالألباب أول مرة، قد بدأ يخبو ويتلاشى في المرة الثانية أو الثالثة أو العاشرة... وأما كتاب الله تعالى، فإنه لا يبلى على كثرة الردّ، وفاتحة الكتاب تقرؤها كل يوم عشرين مرة بل أكثر، ولا تزال تسكب في قلبك الروعة، وفي عقلك الإعجاب والإكبار... لماذا؟ لأنها كلام الله تبارك وتعالى.
وتذكّر، أخي المؤمن، وأنت تهيم في أودية هذا الجمال وهذا الجلال، ما رواه الأئمة مسلم والنسائي وغيرهما في الحديث القدسي: قال الله عزّ وجلّ: "قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: الحمد لله رب العالمين. قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم. قال الله: أثنى عليّ عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين. قال الله: مجّدني عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل".
فيا أخي المؤمن، الزمِ التدبر والإنعام، واجتهد أن تقرأ كتاب الله على مكث وتمهّل، وخشوع وتذلل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد وتحسين الصوت، من غير تكلّف ولا خروج عن قواعد الترتيل، أو اشتغال بالألفاظ عن المعاني... فإن ذلك مما يعين على التدبر والفهم، وعلى التأمل والذكر، وعلى كمال القربى من الله ورضوانه. والله يرعانا ويرعاك. والحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 1018