حرية الرأي وحرية التعبير بين السر والعلن
مفهوم الحرية من أكثر المفاهيم طرقا من طرف الفلاسفة والمفكرين والناس أجمعين منذ آلاف السنين ، وقد اختلفوا في طرقهم له باختلاف قناعاتهم وثقافاتهم إلا أن ما يقرب بينهم جميعا هو يقينهم وقناعتهم الراسخة أن الحرية ضرورة تقتضيها كرامة الإنسان التي هي هبة إلهية لا يمنها على الخلق سوى الخالق سبحانه وتعالى القائل في محكم التنزيل : (( ولقد كرمنا بني آدم )) ، ولا كرامة دون حرية ، ولا حرية دون عبودية لله عز وجل واهب الكرامة للإنسان دون أن يكون في العبودية له شريك مصداقا لقوله عز من قائل : (( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون )) ، ويتبيّن من هذه الآية الكريمة أن العبودية لله تعالى دون شريك معه في ذلك ، وهو ما يجعل العباد ربّانيين أي منتسبين في عبوديتهم لربهم ، ويتبيّن أيضا منها تعريف لمفهوم الحرية وفق القناعة القرآنية حيث يفهم من تشديد الله عز وجل منع استعباد الناس تجنب إكراههم أو إجبارهم على التخلي عن حريتهم التي هي العبودية لخالقهم أو تقييدها بقيود أو بشروط لأنه وحده سبحانه وتعالى من له حق تقييدها أو اشتراط شروط تضبطها .
ومعلوم أن كل من يقيد حرية الإنسان أو يضع لها شروطا غير القيود والشروط التي وضعها الله تعالى، يكون هو الآخر مقصودا بالنهي الوارد في هذه الاية الكريمة كما خوطب بذلك المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الذين لم يقل أحد منهم للناس كونوا عبادا لي من دون الله عز وجل كما افترى ذلك عليهم بعض أهل الكتاب .
وإذا ما جمعنا بين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسّون فيها من جذعاء " ، وبين مقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " متى استعبدتهم الناس وقد ولدهم أمهاتهم أحرارا " ،أدركنا أن الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها ،والتي هي العبودية له دون شريك ،هي الحرية ، ذلك أن كل من يغير هذه الفطرة في البشر يكون مصادرا لحريتهم . وكل تعريف لمفهوم الحرية غير هذا التعريف المنصوص عليه في كتاب الله عز وجل ، وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم يكون مبتذلا له .
وحين يعرف البعض مفهوم الحرية كما جاء ذلك في موسوعة ويكيبيديا بأنها : " هي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو قيودا معنوية ، فهي تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو للذات ، والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما " ، بكون هذا التعريف محقا في جانب ، وناقصا من جانب آخر ، أما وجه الحق فيه فلأنه ينفي أن تكون العبودية لشخص أو لجماعة أو للذات ، وأما وجه النقصان فيه فلأنه أغفل العبودية لله تعالى ، وهذا الذي أغفله هو ما يحمل البعض على سوء فهم الحرية فهما مبتذلا يجعلها تسقط إما في الإفراط أو في التفريط ، ذلك أن الإفراط يوقع الناس في العبودية لذواتهم ، والتفريط يوقعهم في العبودية لبعضهم البعض أفرادا أو جماعات ، والاعتدال بين الإفراط والتفريط، هو أن تكون العبودية لله تعالى، وأنعم بها من عبودية تجعل الإنسان يتمتع بكامل حريته المتزنة ، وكامل كرامته .
وحين تكون عبودية الإنسان لله عز وجل، يتحرر من كل القيود الوضعية ، ولا يخضع إلا لقيود وضعها له خالقه صيانة لحريته وكرامته .
ولنعد الآن إلى حرية الرأي، وحرية التعبير التي يخوض فيها الناس كل خوض حسب قناعاتهم وحسب مواقعهم ، وحسب وجهات نظرهم، لنقول إن الرأي كما تعرفه معاجم اللسان العربي هو الاعتقاد أو هو القناعة الخفية عند الإنسان والتي لا يعلمها إلا الذي يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى ، ولا يعلم الخلق رأي أي إنسان ما لم يعبرعنه بلسان أو بخط يده أو بإشارة ما دالة عليه دلالة واضحة غير قابلة لتأويل خاطىء أو محملة ما لا تحتمل من دلالة ...
وإذا ما كانت حرية الرأي محط كتمان وموطن سر ، فإنه لا يمكن أن تقيدها قيود بشرية مهما كانت ، ولكنها في المقابل تكون مقيدة بقيود عالم السر وأحفى سبحانه وتعالى ، وخلاف ذلك حرية التعبير التي لا يمكن أن تتحرر من قيود بشرية تصادرها .
ومعلوم أن الحريتين معا ، حرية الرأي، وحرية التعبير نظرا لتلازمهما فإنهما بمثابة وجهين لعملة واحدة إذ لا يكون التعبير إلا مسبوقا بالرأي ، ويكون الثاني خادما للأول . ومع أن آراء الناس كثيرة ، فإن التعبير عنها قليل جدا نظرا للقيود التي تفرض على حرية التعبير ، وهي قيود لا يمكن أن تقيد الآراء طالما ظلت طي الكتمان .وإذا ما أمكن الجزم بأن الناس أحرار في آرائهم نظرا لسريتها ، فإنهم ليسوا كذلك في التعبير عنها نظرا للقيود المفروضة على حرية التعبير ، وكل كسر لهذه القيود تكون له حتما عواقب وخيمة .
ولا يمكن أن يزعم زاعم أن حرية التعبير مكفولة في شبر من هذا العالم، لأن كل سلطة فيه تضع قيودا لهذه الحرية تحت شتى الذرائع والمبررات . وقد يبدو للبعض أن هذه الحرية موجودة في بعض أقطار المعمور ، والحقيقة غير ذلك لأن ما يوجد منها إنما يسمح به لمن هم خارج أوطانهم ، ولأن البلاد التي تؤويهم إنما تكون لها مصالح في السماح لهم بحرية تعبيرهم عن آرائهم في غيرها من البلاد ، وقد تنتهي تلك الحرية ،وتصادر بمجرد عقد صفقات مصالح فيما بين البلدان .
وليس أمام أي إنسان في هذا المعمور سوى التمتع بحرية الرأي طالما ظل طي الكتمان ، أما حرية التعبير فدون التمتع بها عند الخلق خرط القتاد ، وهي مضمونة فقط عند الخالق سبحانه وتعالى الذي يعلم سرها، والذي لا تخفى عنه خافية .
وسوم: العدد 1023