هل أصبح إنقاذ الدول العربية المنهارة مستحيلاً؟
صحيح أن هناك أمثلة عديدة عبر التاريخ البشري الحديث على سقوط الأمم ثم نهوضها بشكل أقوى كما حصل مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. قد يقول قائل من الخطأ الفادح تشبيه بلداننا العربية كسوريا وغيرها بألمانيا واليابان. صحيح أنهما تعرضتا إلى عملية تدمير رهيبة على كل الأصعدة، لكن لا ننسى أنهما كانتا تمتلكان قاعدة يمكن البناء عليها، فألمانيا كانت بلداً صناعياً متقدماً بالمقاييس العالمية رغم هروب الكثير من علمائه إلى أمريكا بعد الحرب، وبالتالي استطاعت أن تضمد جراحها بسرعة قياسية لتصبح أهم بلد أوروبي خلال سنوات قليلة. ولا بد أن نضيف هنا إلى القاعدة الصناعية والعلمية التي كانت بحوزة ألمانيا سابقاً أن الحرب أنهت النظام النازي الذي كان السبب المباشر في دمار ألمانيا، وهو شرط لا يتوفر بعد لكل البلدان العربية التي انهارت. فكيف لنا إذاً أن نراهن على إنقاذ سوريا واليمن ومصر وليبيا والسودان والجزائر والعراق ولبنان إذا كانت الأنظمة التي أدت إلى انهيار تلك البلدان مازالت تتحكم بالبلاد والعباد وتتفنن بالتنكيل بها والإمعان في تفتيتها وتبديدها. ولا ننسى مشروع مارشال الأمريكي الشهير الذي لعب دوراً محورياً في إعادة أوروبا إلى الحياة بعد الحرب، وهو مشروع غير متوفر أيضاً للدول العربية. وإذا كانت أمريكا قد انتشلت الأوروبيين المسحوقين بعد الحرب عبر المشروع آنف الذكر، فإنها أخذت بأيدي اليابانيين أيضاً رغم أنها استخدمت القنبلة النووية ضدهم في نهاية الحرب. واليابان مدينة حتى اليوم للدور الأمريكي الكبير في انتشالها من براثن الدمار والتخلف، فقد ساهمت أمريكا في وضع معظم القوانين التي تحكم وتنظم مختلف نواحي الحياة في اليابان، بما فيها قوانين الاستصلاح الزراعي والصناعي والإداري وغيرها. صحيح أن أمريكا دعمت اليابان بعد الحرب بمشاريع كبيرة للغاية ليس حباً باليابانيين ولا تكفيراً عن ذنوبها باستخدام السلاح الذري ضدهم، بل لخلق قاعدة حليفة لأمريكا ضد الصين، لكن هذا لا ينفي مطلقاً أن اليابان لم تكن لتنهض من كبوتها بعد الحرب لولا الدعم الأمريكي الكبير.
هل هناك أي مشروع عربي أو دولي لمساعدة الدول العربية المنكوبة والنهوض بها من تحت الرماد؟ بالطبع لا، ومن السخف أصلاً أن نتوقع من الغرب عموماً أن يسارع إلى إنقاذ البلدان العربية المنهارة كالسودان وسوريا واليمن ولبنان والعراق والجزائر ومصر وتونس وغيرها. هل هناك مصلحة غربية لفعل ذلك؟ أليس الغرب متورطاً أصلاً في الكوارث التي حلت بالعديد من البلدان العربية؟ هل يستطع العرب أن يساعدوا بعضهم بعضاَ؟ وهل الأنظمة الحاكمة في الدول المنكوبة قادرة على إدارة عملية النهوض والإنقاذ بأساليبها الحالية؟ نحن نعلم مثلاً أن دول الخليج قدمت لمصر بعد الثورة أكثر من مائة مليار دولار كمساعدات. ماذا استفادت مصر من تلك المساعدات؟ ألا يوشك الاقتصاد المصري اليوم على الإفلاس؟ ألا تضطر الدولة المصرية إلى بيع الكثير من أصولها لمواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة وتمويل ديونها الرهيبة التي تنفق عليها القسم الأكبر من ميزانيتها السنوية؟ ألا يواجه المصريون أزمة معيشية متصاعدة على نحو خطير لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد الحديث؟ وحدث ولا حرج عن سوريا.
إن أي عملية إنقاذ للدول العربية المنهارة تحتاج قبل أي شيء آخر أنظمة جديدة قادرة على إدارة عمليات الإنقاذ والإعمار التاريخية. من هو المجنون الذي سيضخ مليارات الدولارات في سوريا مثلاً وهو يعلم أن البلد يُدار بعقلية العصابة دون أبسط القوانين
كيف يمكن للعرب أو أي قوى أجنبية أخرى أن تنهض بسوريا بوجود نفس النظام الذي أدت سياساته إلى إيصال سوريا إلى هنا؟ هل يستطيع النظام الذي تسبب بكل هذا الدمار والتخريب والتهجير أن يصلح سوريا أو يعيد إعمارها حتى لو حصل على مليارات الدولارات؟ وكذلك تونس ولبنان والعراق والسودان واليمن، فكلها أنظمة فاشلة هي المسؤولة أصلاً عن كوارث بلدانها وشعوبها، فكيف تدير عملية الإنقاذ والإعمار حتى لو حصلت على دعم عربي أو دولي؟ مستحيل. وكما ذكرنا آنفاً، لم تستطع ألمانيا الوقوف على رجليها مرة أخرى بعد الحرب لولا سقوط النظام النازي، وبالتالي فإن أي عملية إنقاذ للدول العربية المنهارة تحتاج قبل أي شيء آخر أنظمة جديدة قادرة على إدارة عمليات الإنقاذ والإعمار التاريخية. من هو المجنون الذي سيضخ مليارات الدولارات في سوريا مثلاً وهو يعلم أن البلد يُدار بعقلية العصابة دون أبسط القوانين التي تنظم الاقتصاد والمعيشة فما بالك الاستثمار. فسوريا كغيرها من البلدان المنهارة تحتاج إلى سلسلة صارمة من القوانين الجديدة لجذب الاستثمارات وعودة رؤوس الأموال، وهذا يبدو مستحيلاً مع وجود هذه «العصابة» التي تتعامل مع البلاد والعباد بـ«عقلية اللصوص وقطاع الطرق». هل يجرؤ أي سوري على تحويل أمواله إلى سوريا للاستثمار فيها وهو غير قادر أن يأمن على فلوسه وأصوله؟ بالطبع لا، فالعصابات الحاكمة ستشاركه في أمواله وأرزاقه، ويمكن في أي لحظة أن تصادر له كل أملاكه بسبب كلمة واحدة كما فعلت مع ملايين السوريين الذين عارضوا النظام فقط بالكلام. وما ينطبق على سوريا ينسحب على بلدان عديدة تُدار حتى اليوم بعقلية العصابة. والأهم من كل ذلك، هل هناك أي نظام أو حاكم في البلدان العربية المنكوبة مستعد أن يتنازل عن السلطة لمن يريد الإصلاح والنهوض؟
مستحيل.
نحن لا شك في حاجة في البلدان العربية المنهارة إلى زعيم كالزعيم الرواندي «مونجو» ونائبه «كاغامي» الذي استطاع أن ينتشل رواندا من أسوأ حرب أهلية في العصر الحديث لتصبح مضرباً للمثل في كل شيء في أفريقيا. وقد عاشت البلاد أسوأ فتراتها على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبدا الأفق ضيقا أمام مونجو وحكومته، فتنازل عن منصبه إلى نائبه كاغامي عام ألفين، ومع توليه السلطة، حدد كاغامي هدفين واضحين: أولهما توحيد الشعب، والثاني انتزاع البلاد من الفقر. وشرع الرئيس في خطة من عدة محاور، في مقدمتها تحقيق المصالحة المجتمعية، وإنجاز دستور جديد حظر استخدام مسميات الهوتو والتوتسي، وجرم استخدام أي خطاب عرقي.
ونجحت خطط الحكومة المتنوعة في تحقيق المصالحة بين أفراد المجتمع، وعاد اللاجئون إلى بلادهم، ونظمت محاكم محلية لإعادة الحقوق وإزالة المظالم. ومع التقدم في الملفات الاجتماعية، وجهت الحكومة طاقتها للتنمية وتطوير الاقتصاد، وقدم الخبراء والمختصون دراسات تحولت لرؤية «رؤية 2020» الاقتصادية، وتشمل 44 هدفا في مجالات مختلفة. تمكنت هذه الأهداف من تحقيق المعجزة، وارتفع متوسط دخل الفرد عام 2015 إلى ثلاثين ضعفا عما كان عليه قبل عشرين عاماً. الخبير الاقتصادي الرواندي كليت نييكزا لا يرى في الأمر أية معجزة، ويقول في حديث سابق للجزيرة نت إنه إذا «استطعت أن تجعل المطار خاليا من الفساد والرشوة، وخدمة الإنترنت في البلاد سريعة، وإجراءات الاستثمار بسيطة، والشباب يتحدثون الإنكليزية، فإنك ستحصل على دولة فعالة، وسوف تجذب الشركات والمستثمرين من كل العالم».
هل يتوفر لنا اليوم «كاغامي» عربي في أي بلد عربي منكوب؟ بالمشمش طبعاً.
وسوم: العدد 1035